الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th April,2005 العدد : 102

الأثنين 9 ,ربيع الاول 1426

أسئلة النهضة ومصيرها
د. يوسف سليم سلامة *
تجد الثقافة العربية نفسها اليوم أمام مجموعة من الأسئلة التي ورثتها عن عصر النهضة، والتي يتعين عليها مع ذلك أن تجيب عنها، وعلى الرغم من تعدد هذه الأسئلة وتنوعها واتصالها بمجالات لا حصر لها، فإنه من الضروري مع ذلك التركيز على بعضها دون البعض الآخر عندما يكون الأمر متعلقاً بعجالة من الكتابة لا تسمح إلا باليسير من القول.
ولعل أسئلة النهضة العربية بأكملها يمكن ردها ? دون تعسف كبير ? إلى سؤال مركزي واحد يتعلق بالتقدم التاريخي للعرب بعدما اكتشف مثقفو النهضة ومفكروها البون الشاسع من التخلف الذي أصبح يفصل بين العرب وأوروبا في منتصف القرن التاسع عشر على أثر الاحتكاك والتواصل والتفاعل الذي بدأ يأخذ مجراه بين العرب وأوروبا انطلاقاً من مصر التي كانت الحملة الفرنسية عليها في نهاية القرن الثامن عشر ومطالع القرن التاسع عشر قد سمحت للمثقفين المصريين والعرب بتبين الهوة الواسعة القائمة بين عالمين مختلفين كل الاختلاف: عالم أوروبا المتقدمة والقوية والغنية، نتيجة لامتلاكها العلم والمعرفة، وعالم العرب الضعيف والفقير والمهيمن عليه من قبل أوروبا، نتيجة لافتقار العرب إلى العلم والمعرفة والقوة، ولذا قد يكون التساؤل: (لماذا تقدمت أوروبا وتخلف العرب؟) سؤالاً نهضوياً نموذجياً باعتباره يلخص الأسئلة كلها من ناحية، ولكون الأسئلة الأخرى المتعلقة بالتقدم والتخلف يمكن اشتقاقها، بهذه الطريقة أو تلك، من هذا السؤال المركزي من ناحية أخرى.. ولذا فإننا في كل مرة نتحدث عن أسئلة النهضة ومحاولة الثقافة العربية الإجابة عنها إنما نشير بذلك إلى جملة الجهود التي بذلها المثقفون العرب للإجابة عن هذا السؤال المركزي وما يتفرع عنه من أسئلة أخرى.
فمنذ عصر النهضة العربية وضع المثقفون العرب العديد من الأسئلة المتفرعة عن سؤال التقدم والتخلف، وكثير من هذه الأسئلة ما يزال محتفظاً بشرعيته وصدقه، من حيث هو سؤال، على المستوى المعرفي، ومن حيث هو إشكال على المستوى التاريخي والسياسي والاجتماعي، ولهذا دلالته.. فالسؤال يموت أو يفقد فاعليته وشرعيته عندما تكون الوقائع التي ارتبط بها وهيأت الظروف المناسبة لإنتاجه قد اختفت من الوجود، أما عندما يكون السؤال ما يزال محتفظاً بأهميته وقيمته المتمثلة في استمرار المثقفين في البحث عن إجابة له، فهذا يعني، بكل بساطة أن الواقع الذي ولد في ظله هذا السؤال ما يزال حياً وضاغطاً على عقول الأمة وأفئدتها من مثقفين وساسة ومشتغلين في شؤون الاقتصاد والاجتماع.
واستناداً إلى هذه الواقعة، فإذا كانت الأسئلة التي طرحها المثقفون النهضويون ما تزال مشروعة ومطابقة لتحديات الواقع ومتطلبات العقل، فلا بد للاهتمام أن ينصرف إلى مراجعة الأجوبة المختلفة التي قدمت لهذه الأسئلة، طالما أنها ما تزال ملحة في طلب إجابات أكثر إقناعاً مما حدث حتى الآن بالقياس إلى الإجابات المختلفة التي سبق تقديمها.
إن مراجعة الإجابات المتعددة عن السؤال الواحد، والتي تتسم جميعها بأنها إجابات غير مرضية للعقل فهو ما يزال يلتمس إجابات يستهدف من ورائها أن يكون أكثر اطمئناناً وراحة إلى صدقها ? معناه أننا ما زلنا في حاجة إلى استكشاف الحقول أو المناطق التي من الممكن لتلك الإجابات أن تكون واقعة فيها.. فاستقصاء هذه الحقول وتلك المناطق قد ييسر السبيل أمام المهتمين بهذه الأسئلة لأن يكونوا أكثر قدرة على عزلها وتحديدها بحيث تكون واقعة خارج النطاق التقليدي للآفاق الجديدة التي ارتادتها الإجابات السابقة بصورة أو بأخرى، وعلى ذلك فأهمية الاقتراحات الجديدة التي تصدر عن المناطق الجديدة أو تلك الحقول التي لم يسبق ارتيادها متوقفة فعلاً على كونها ليست واقعة في نطاق تلك المناطق والحقول المشار إليها فحسب، وإنما تستمد الجانب الأكبر من أهميتها من كونها هي ذاتها تشارك، بصورة أو بأخرى، لا في اكتشاف تلك الحقول والمناطق فقط، وإنما في ابتكارها وإنتاجها بمعنى ما من المعاني.
ثمة وهم في أذهان عدد كبير من المهتمين بهذه الأسئلة مؤداه أن التماس الإجابات إذا أريد للإجابات أن تكون إجابات حقيقية وفعّالة بصورة خاصة مشروط بأن يكون المفكر أو الباحث مرتبطاً بالواقع بالمعنى الفج لكلمة الواقع ? أو مندمجاً بالساحة التي يعمل من خلالها اندماجاً كلياً بحيث لا نجد مسافة تفصل بين الفكر والموضوع الذي يتخذ منه العقل موضوعاً للدرسوالتحليل.
نعم هذا وهم متأصل في أذهان الكثيرين، ذلك لأن هذا الارتباط الصميمي بين العقل وما يسمونه بالواقع غالباً ما يؤدي إلى أن يتحول العقل إلى مجرد مرآة تنعكس على صفحتها عناصر الواقع كما هي في فوضاها أو ترتيبها، في انتظامها وتعددها وكثرتها، في بقاء الظاهر ظاهراً وفي بقاء الجوهري والماهوي محتجباً، ذلك أن العقل عندما لا تتعدى وظيفته أن يكون مرآة أمينة للواقع فإنه في الحقيقة يفقد وظيفته الأساسية المتمثلة في فهم الواقع وتفسيره والهيمنة عليه.
وهكذا فإن التعامل الجدي مع تلك الأسئلة يفترض نوعاً من الانعتاق من الواقع والانفكاك عنه حتى تتوفر للعقل مساحة واسعة من الحرية تمكنه من تفكيك الواقع تفكيكاً دقيقاً، وتسمح له بتحليل عناصره وأجزائه إلى بسائطها الممكنة، مما يجعله قادراً على إعادة تأليف الواقع أو تركيبه في صورة جديدة، بمعونة من المخيلة ذاتها، وما هذه الصورة إلا المسعى الأولي الذي يستهدف إعادة بناء الواقع واستكشاف صوره الممكنة التي هي ذاتها تعبير عن فاعلية العقل الحر وتطلع الإرادة إلى بسط سلطانها على هذه الصورة المحتملة للواقع الذي يتم إنتاجه على نحو جديد وابتداءً من دوافع وغايات مختلفة عن تلك الدوافع والغايات المتوارثة عبر الأجيال، والتي هي ذاتها قد تحولت إلى عقبات أمام المهتمين تحول بينهم وبين الانعتاق مما اصطلح القوم على اعتباره صحيحاً أو غير قابل للجدل، الأمر الذي أحال مساحات واسعة من حياتنا إلى بديهيات ومسلمات متعالية على كل صور النقد والمراجعة التي لا تكف الأمم الحرة، والإرادات المتطلعة إلى (التسلطن على الوقائع) بعبارة الطهطاوي الشهيرة عن الاضطلاع بها حيناً بعد حين وجيلاً بعد جيل.
وهكذا فإن ممارسة النقد لهذه المسلمات وتلك البديهيات أو على الأقل تعليق الإيمان بها وقبولها ولو مؤقتاً حتى يكون العقل قادراً على النجاة من تأثيرها ووقوعه ضمن سلطانها التقليدي والموروث يصبح شرطاً ضرورياً لكل من يبحث عن إجابات لتلك الأسئلة التي مضى على وضعها قرابة القرنين منالزمن، دون أن يكون في وسعنا الزعم بأننا عثرنا على شيء يتجاوز الادعاء بأن مجموعة هائلة من الاقتراحات قد قدمت عبر الأزمنة المتطاولة في المسعى المتطلع إلى العثور على إجابات لهذه الأسئلة.. فتعليق المسلمات والبديهيات أو الحد من فاعليتها، ولو بصورة مؤقتة من شأنه أن يفتح أمام العقل مجالات ربما لا يكون قد سبق له أن فكر فيها من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يجعل العقل أكثر إرهافاً ودقة لوضعه كثيراً من الأثقال الموروثة جانباً نتيجة لمقدرته على الانفتاح أمام الصور المتعددة والاحتمالات اللا متناهية التي قد يلتقي بها لكونه أصبح منخرطاً في مواجهة أكثر نزاهة وشفافية عندما يضع نفسه في هذا اللقاء الحر مع ما يحاول استكشافه، أو بالأحرى مع ما يحاول ابتكاره أو إعادة إنتاجه على هيئة وقائع يقترحها العقل باعتبارها أجوبة محتملة على أسئلة قد تكون قديمة أو جديدة.
من كل ما تقدم نستخلص مجموعة من الحقائق أو الوقائع، أو بالأحرى نسقاً من الأفكار الموجهة التي يمكن لها هي ذاتها أن تكون جزءاً لا يتجزأ من الجهد المتطلع إلى استكشاف إجابات عن بعض الأسئلة التي طرحها مفكرو النهضة العربية منذ أزمنة بعيدة.
وأولى هذه الحقائق أو الوقائع أن الأسئلة التي سبق طرحها هي أسئلة صحيحة أو مطابقة لمضمون الخبرة الحية التي عاشها هؤلاء المفكرون وتفاعلوا معها مما جعلهم يتخذون منها محوراً لأفكارهم واهتماماتهم، على الرغم من تباين مشاربهم واتجاهاتهم والمناحي الفكرية التي نحوها في اتجاهات مختلفة.
والحقيقة الثانية هي أن الأسئلة التي طرحت لم تكن صحيحة فحسب وإنما هي أيضاً ما تزال محتفظة بشرعيتها حيال الوقائع القائمة والغايات المرتجاة أو المقاصد التي ما زلنا نتطلع إليها، وكون هذه الأسئلة ما تزال شرعية يحتم علينا، أكثر من أي وقت مضى أن نلتحم بها من جديد، وأن ننخرط في مساعٍ متجددة لتعمقها واستكشاف ما تنطوي عليه من أسئلة فرعية قد تكون نمت وتطورت لأن الأسئلة الرئيسية تحيا في الزمن وفي إهاب التاريخ، ولكونالأسئلة الأصلية قد أصبحت محملة بدلالات وإيحاءات جديدة لا يصح تجاهلها أو إهمالها.
والحقيقة الثالثة التي لا بد من إبرازها هنا، هي أنه على الرغم من أن أسئلة النهضة تتسم بالصحة من الناحية المعرفية، وبالشرعية من الناحية التاريخية، فإن هذا كله لا ينفي، ولا يعفي، من ضرورة إعادة النظر في الأسئلة الأصلية، أو بالأحرى الانخراط في مسعى دائب يستهدف تجديد الأسئلة وتطويرها واستكشاف أسئلة جديدة ربما تكون أكثر مطابقة للوقائع من بعض الأسئلة التي سبق وضعها.
وعلى كل حالٍ فإن تجديد الأسئلة، بقدر ما يسمح للعقل بوضع أسئلة جديدة، فإن دلالته الأعمق تتمثل في كون العقل قد أصبح أقدر على استكشاف مناطق جديدة وحقول مستحدثة، مما يعني أن العقل قد أصبح أقدر على ابتكار حقائق جديدة ووقائع جديدة غير مسبوقة.


* أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق
salamah@scsnet.org

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved