الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th April,2005 العدد : 102

الأثنين 9 ,ربيع الاول 1426

خطاب تجاوزه الزمن..!!
أمل زاهد
يعتقد بعض صانعي الخطاب في مشهدنا الثقافي أن دور المرأة في الإسلام ينحصر في مهمة وعظية يطلق عليها مجازا (دعوية) وتتخفف المرأة عن طريق هذه المهمة من الواجبات والمسؤوليات المحتم عليها القيام بها في سبيل نصرة دينها وفهمه الفهم الحقيقي. وهكذا تبتسر هذه المهمة بتشذيب الخزانات المتهدلة بالملابس الوافدة علينا من بلاد (الكفار)، ورفض ونبذ ما ابتدع فيها، ثم لا مانع أيضاً من أن تتجه الواعظة في طريقها المحفوف بالمناداة بالويل والثبور وعظائم الأمور إلى الأغاني وما تجلبه معها من فتنة ودعوة إلى تفسخ أخلاقي وانهيار قيمي، والمجلات الخليعة والبرامج الماجنة وما تسببه من فساد في المجتمع وهلم جرا، فتُسقط في طريقها كل وسيلة من وسائل الترفيه صريعة في حلبة الحرص على الأخلاق والذود عن الفضائل.
فأدبيات هذا النوع من الخطاب تطلب من النساء عبر كثير من المقالات التي تزدحم بها صفحات الجرائد ومنتديات الانترنت أن يتحولن إلى واعظات يشنفن آذان أخواتهن المسلمات بفيض مواعظهن وجليل نصحهن حتى يؤدين واجبهن تجاه دينهن كاملاً غير منقوص، ثم لا يلقين بالاً لأية إشكاليات أو قضايا يتأجج لظاها في محيطهن. وهذه الأدبيات تتجاهل أن مجتمعاتنا برمتها قد تحولت إلى هيئة إفتاء ووعظ ونصح وإرشاد، وأن الصغير والكبير والجهلاء وإنصاف المتعلمين لا يتورعون عن الإفتاء وإطلاق الأحكام الدينية التي تقيم محاكم لتصرفات البشر بل وتتجرأ أيضاً على ادعاء معرفة النوايا والمقاصد المتوارية خلف الأعمال الظاهرة، ثم لا تلبث أن تردي أحدهم أو إحداهن صريعاً نتيجة لتصرف لم يرق لهم أو لم يحز على رضاهم. وأن تصنيف الناس إلى فئات بات سمة واضحة من سمات مجتمعاتنا وأن عظيم البلايا قد وفد علينا من جراء إطلاق التهم على عواهنها ومن إصدار الأحكام على خلق الله، وأنه صار من السهولة بمكان إشهار سلاح التكفير في وجه أي شخص يجرؤ على التفكير بطريقة مختلفة. بينما تلغي هذه الأدبيات من أجندتها تثقيف المرأة وتوعيتها بدورها في المجتمع وأهمية مشاركتها في صنع نهضة بلادها وتنميتها وتفعيل دورها، وعن المسؤولية الملقاة على عاتقها فيما يختص بإدارة منزلها أو تربية أبنائها وطبيعة المراحل التي يمرون بها وكيفية التعامل مع الإشكاليات التي لا تفتأ ترمي بثقلها على ظهورهم اليانعة وعن ماهية التحديات التي تواجهها الأسرة والمجتمع في وقتنا الحالي.
والكارثة أننا نلاحظ أن الآفات الأخلاقية في مجتمعاتنا تزداد طرديا مع ازدياد جلسات الوعظ والإرشاد تلك وأنها لم تنجح أبداً في كبح جماح الفساد الأخلاقي، لأنها لا تقوم على دراسات اجتماعية نفسية تحلل الفرد وعلاقته بالمجتمع وتبني خطوط سيرها على إدراكها لماهية العلل والأمراض المصاب بها المجتمع ومن ثم محاولة وضع اليد على طرق علاجها، ولا تعرف طرائق سير العقل البشري وأفضل الوسائل للدخول عليه والتأثير فيه بأسلوب ناجع متوازن لا يخلق منه نموذجاً سلبياً يعادي الحياة وينفر من العمل المثمر البناء. زد على ذلك أنها تلغي قيمة العمل الدنيوي ليوضع في الحواشي المهملة، لتصبح النهضة بمجتمعاتنا وتنميتها والرقي بها من نوافل الأعمال التي لا تسمن المسلم أو المسلمة ولا تغنيه من افتقار إلى صالح الأعمال وجزيل الأجر.
وندوات الوعظ هذه تنتهج نهجا طوبائيا يحلّق في فضاء لا ينتمي لواقع الحال بصلة، له مقاييس مثالية تتجاهل تركيبة الإنسان النفسية والبيولوجية والعقلية، ولذلك لا يمكن بأي حال ترجمته إلى عمل في دنيا الواقع، وحتى لو قدر له أن يخرج إلى الواقع سرعان ما يختفي منه لأنه يستحيل على المرء الالتزام بنهجه الشاق في طبيعته وغير الواقعي في مطالبه وتكون المحصلة هي نفور من الدين وابتعاد عنه بدلاً من رغبة في التمسك بمبادئه وقيمه، أو أفراد مغيّبون عن الواقع غير قادرين على التعاطي معه. كما أنها لا تتقن التعامل مع عنصري الترغيب والترهيب الذي تزيد أحيانا فيه جرعة الترهيب لتصبح سادية من الدرجة العالية جدا يمارسها الواعظ على المتلقي ويهيمن بها على مشاعره وعواطفه، وتحوّل علاقة الإنسان بربه إلى علاقة وسواسية ملؤها الخوف والرعب، فيشل الخوف ملكات التفكير تماماً ويصبح المتلقي كالرجل الآلي يحركه الواعظ (بالرموت كنترول) كيفما يشاء، ويسيطر عليه لاغياً عقله وذاتيته وفرديته بالإضافة إلى أنها تمعن في تجاهل أزمات عصرنا الحقيقية وقضاياه وتعيدنا في رجعة غير منطقية إلى عصور خلت يستحيل أن تنطبق علينا إشكالياتها.
الوعظ الطوبائي لا يجذر للفضيلة ومكارم الأخلاق ولا يدرأ عن المجتمعات أخطار المفاسد الأخلاقية، بقدر ما يساهم في خلق أفراد مزدوجي الشخصية يتفنّون في ارتداء الأقنعة التي تخفي حقيقة قسماتهم الداخلية خوفاً من لوم اللائمين، يرتكبون في الخفاء ما يستهجنونه ويستنكرونه في العلن، ولا تنجح الموعظة إلا في استدرار دموع تجف قبل أن يتلاشى صدى كلمات الواعظ من آذان المتلقين.


amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved