الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th July,2005 العدد : 115

الأثنين 12 ,جمادى الثانية 1426

الباحة... الصيف...الثقافة..«رحلة البحث عن زمن »
د. صالح زيَّاد
حين تحل هذه الأيام الصيفية بحرارتها وسكونها، يتجدد في المصايف الممتدة على جبال السروات زمن من البهاء والأنس تصنعه الطبيعة، بطقسها وجبالها وغيومها وأشجارها الخضراء، ويكتشفه الإنسان العابر والمقيم في المصايف، حتى ليخيَّل إليك أن المكان يتجدد في عيون أهله بفعل الصيف.
الصيف، هناك، كأنه لحظة مكتشفة للتو، راكضة باتجاه الأفول. حين تشعر بجريان الزمن، بحركته، تشعر بقيمته، وحين يكون للزمن قيمة يضيق ويقصر..!!. فاعلية الإنسان، في ضوء منطق القيمة الزمنية، تكون كثيفة، لاهثة.
أسبوع واحد قضيته في الباحة أعادني إلى الزمن. هذه الجبال والوديان أعرفها جيداً، أعرف المزارع والعرصات والتلال بأسمائها. التسمية للمكان هي وعي ما بالزمن ينبئ عن رغبة في امتلاكه وخلوده. المكان بلا اسم هو التيه والضياع. أن تتيه في المكان يعني أن تفقد حس الوقت، أن تخرج من الزمن.
لا أدري لماذا كانت الفعاليات الثقافية التي حضرتها خلال هذا الأسبوع محشوة بسؤال الزمن؟!.
كان تدشين دارة الملك عبد العزيز بالتعاون مع نادي الباحة الأدبي لمشروع جمع المصادر التاريخية. مصادر التاريخ في المنطقة ممتدة بين ذاكرة كبار السن، وإرشيف الدوائر الحكومية، وبعض المخطوطات والنصوص الشعرية أو المواقع الأثرية.
التاريخ: أفكار وأشخاص ومقولات وأحداث. التاريخ: حركة، ومن ثم فهو زمن. أن تمسك بالتاريخ يعني أن يكون للمكان لديك عمق وسياق. عمق المكان هو تاريخه وذاكرته. المكان بلا تاريخ وبلا ذاكرة هو مكان بلا زمن أي بلا إنسان.
الدكتور فهد السماري، أمين دارة الملك عبد العزيز، وثلة من العاملين معه، جادون في الإمساك بالتاريخ في المنطقة. حدثنا طويلاً عما سيصنعون، واغتبطنا بما أنجزوه من جمع للمصادر الشفوية. قلتُ له، محرضاً: أن تبدأ متأخراً خير من ألا تبدأ.. امسكوا بالتاريخ، ليعي أبناؤنا أن لمكانهم عمقاً وسياقاً، وأنه ثريٌ بزمنه وغنيٌ بإنسانه.
في جمعية الثقافة والفنون بالباحة تنتصب قامة شامخة ونابضة بالضوء في بهاء عبد الناصر الكرت وجديته. الزمن، هنا، نبض العصر واشرئبابه إلى المستقبل. العصر تمثلٌ وإبداع. أن تعيش ثقافة العصر يعني أن تتمثل الموروث ومن ثم تستطيع الإضافة إليه.
كأن سعيد ضاوي، رئيس قسم الفنون التشكيلية بالجمعية يقول لنا وهو يشير إلى اللوحات التي ازدانت بها غرف وممرات الجمعية: هذا هو الزمن. تجيل عينيك هنا وهنا وهنا... أشياء وأشخاص، وجوه وأماكن، خطوط وأشكال... إنه الزمن حين تمتلكه ريشة الفنان فتصوغه حلماً أو وثيقةً أو تعبيراً... تتأمل الرسومات بصمت فتأخذك الحركة والجريان والتحفز الذي تنطوي عليه مساحتها المخطوفة من موقع دهشة ما.
الثقافة في الجمعية هي الإبداع الفني وهي الفكر والمعرفة الإنسانية. هنا تجد للشعر حفاوة الاكتشاف المتأني للفصحى وحماس القوافي الراقصة والمغناة في العامية، وتجد بإزاء الحفاوة بالفنون التشكيلية الحفاوة بالسرد ومبدعيه... ألم أقل إننا داخل الجمعية محاطون بزمن له نبض العصر واشرئبابه إلى المستقبل؟!.
هذا علي صحفان، وهذا عبد الله البيضاني من أبرز شعراء العرضة في المنطقة يقول عبد الناصر وعند مدخل قاعة المحاضرات كان صالح مديس، رئيس النشاط الثقافي بالجمعية، واقفاً يرحب بشباب من مستويات مختلفة جاؤوا لمحاضرة الزميل الدكتور صالح بن معيض: (الحركة الثقافية في منطقة الباحة).
وهنا، عليك أن تتابع سرد الزميل ووصفه الذي يشعرك، وهو يوالي ذكر الوقائع الثقافية وتطورات الوعي، بالزمن الثقافي من حيث هو فعل إنساني على مستوى المبادرة الفردية وعلى مستوى وظائف المؤسسات الرسمية وأدوارها.
فالمعلمون والفقهاء الأول، في المنطقة، كانوا يتصدون بإرادة صلبة لمهماتهم دون مبالاة بالمشقة والفقر والغربة التي كانوا يضطرون إليها وهم يطلبون العلم في اليمن أو مكة أو المدينة، ثم يتنقلون للتعليم والفتوى وإمامة الناس. وتخالجك ذكريات مبطنة بالشجن وأنت تسمع الحديث عن دور معهد الباحة العلمي الذي درست فيه، في ابتدار وعي مبكر بالمسرح وازدحام الناس موسمياً أمام ستارته التي تخبئ الضحك والخوف والشفقة، وتشعُّ بالثقافة.
كان في المساء ذاته متسع لانثيالات بهجتك التي تؤثر الشجن. الزمن يفيض في المكان، يعمِّقه، ويضاعف وجودك فيه. جبل (مهران) لم يعد أجرد، مقفراً، ومتمرداً على الزمن، ها هو يطاطئ قمته، ليتبوأها مقهى ومطعم من طراز العصر. من هنا تلقي ببصرك إلى جبال تهامة التي تتابع منحدرة سريعاً إلى البحر، ومن هناك تلمح (محضرة) قرية عبد العزيز مشري التي صنع أسطورتها، وأحال إليها تمثيلات قصصه ورواياته لمعنى الغيوم والسفر والموت والسنابل.. وترمي بصرك باتجاه السفح متخيلاً ومتذكراً ساحة الحوش والإبريق المعدني المتعرج، وهو (ينتظر تباشير الفجر القادم من مسافات البعد، ويفتح فاه للسحابة القادمة من عقبات تهامة، لتمطر ماء الوضوء وتمسح عن أعشاب البراءة سحنة الغربة الداكنة).
كانت الجلسة حافلة بالأدب والتاريخ والصحافة... وموبوءة بالزمن، ولم ينقض سهرنا حتى أخذ منا الشاعر غرم الله الصقاعي موعداً في عصر اليوم التالي.
كان غرم الله الصقاعي مغرضاً إذ أضمر أن يصل بحسنا بالزمن إلى مدى سحيق، فحملنا إلى (بني كبير) وأوغل بنا في قفار باديتها ليرينا (قبور الزينات).
موقع أثري كما يبدو مفتوح على الأسطورة، ومكتنز بلغز التاريخ وأسئلة المكان. القبور كثيرة العدد ومبني على عدد منها أبنية لا تزال شاخصة رغم هدم بعضها، وإذ تحمل الأبنية دلالات غامضة، فإن أبرز ما أدهشنا هو خلو موقعها من المباني السكنية القديمة!!. هل في الباحة (إدارة للآثار)، أو هل لدى لجنة التنشيط السياحي لجنة مهمومة بحصر الآثار وتقصي مواقعها وحمايتها وإحاطتها بالأسوار أو الأسلاك؟!.
في آخر الليل كنا عائدين إلى الباحة المتلألئة بعقود الكهرباء كعادتها كل صيف، وكنت أشير إلى الضوء وأهمس للصديق الدكتور علي الرباعي:
في الظلام لا حساب للزمن؛ الضوء، وحده، هو ميلاد الزمن...


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved