الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th August,2003 العدد : 25

الأثنين 20 ,جمادى الآخر 1424

صدى الإبداع
الحداثة والتراث، وما بينهما 58
د. سلطان بن سعد القحطاني

إن من أصعب الأمور عدم معرفة المصطلح، في أي علم كان، وأصعب من ذلك التعالم بمعرفة الأشياء والفتوى فيها، وتكوين المرجعية العقلية من الذين يدعون معرفة كل شيء. وبالتالي اختلطت الأوراق، بين من يدري، ويدري انه لا يدري، ومن لا يدري ويعرف انه لا يدري. وكثر في هذا الزمن استخدام المصطلحات الفنية والعلمية، للدلالة على ما تدل عليه، وما لا تدل عليه، كالحداثة والعلمانية والليبرالية والرجعية، والكثير من هذه المصطلحات، وأكثرها أجوف لا يدل على شيء. وقضية الحداثة والأصالة، قضية قديمة في التراث العربي والعالمي، وليست خاصة ببلد أو جيل من الأجيال، يحدده تاريخ زمني معين، بيْد أنها من الظواهر التي تظهر في زمن التقدم الفكري في مواجهة التخلف الفكري، وهما ظاهرتان متضادتان في الفكر العالمي، حيث تظهر الحداثة في مواجهة الجمود، ويظهر الاختلاف بينهما في دلالة المصطلح العلمي قبل المصطلح الفني. وإذا قلنا ان الحداثة تعني الحركة والتجديد، في مواجهة الجمود والتخلف، وجدنا الأول (الجمود) يرفض كل إشكالية تقدمها الحداثة، التي تختلف من مجتمع إلى آخر. وقد تبين من دراستنا لبعض معطيات الفكر العربي، في عصور التقدم العلمي في الدولة العباسية، ان الحداثة لم تصطدم بالأصالة، كما هو اليوم في العالم الثالث، فكيف حصل هذا؟؟ إن ما حدث من ابتكار وتجديد في الفكر في القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي، قوبل بشيء من العنت، من الناحية السياسية والعقدية، لم يوقفه، أو يحاربه محاربة الضد للضد، بل قابله بنقد كانت محصلته ثقافة عربية إسلامية، لم يغير في الثوابت، بقدر ما غير في البناء الفكري المتحد. كان ينطلق من أمة تسيطر على العالم في ذلك الوقت بفكرها وعدالتها، وقوتها السياسية. لذلك غلبت كل التيارات الفكرية المنتهية، ولم يكن وقوفها في وجه تيار ما للقضاء عليه، بل لاستخلاص ما فيه من العبرة والمنفعة، إن وجدت. فالدولة في ذلك الزمن دولة بانية مسيطرة، ولم تكن دولة منهزمة مستهلكة، يقلد الضعيف فيها القوي. يقول أحد الكتّاب الأتراك: كنا نقلِّد الرجل الأوروبي، في لباسه وسلوكه، وعندما قلّدناه لم يلتفت إلينا. وإذا عدنا إلى ما كان يسمى حداثة في التراث العربي، وجدناه نوعاً من الحداثة، أي الغموض، عند البحتري، في ذكر النيروز، وأبي تمام، في مطلع قصيدته:
«وهنَّ عوادي يوسف وصواحبه
فعزماً فقدما أدرك السؤلَ طالبه»
(الديوان 1/217)
وقد حمل ذلك أبا سعيد البصير وأبا العميثل الأعرابي على أن يهتفا به قائلين: لِمَ لا تقول ما يفهم؟؟ فرد قائلاً: ولما لا تفهمون ما أقول!!.. وما بين السؤال والجواب تقف المعادلة الصعبة في الفهم، السائل يستفسر، والمجيب يستفسر! ولم يفسد للود قضية، بل بقي أبو تمام، وبقي نقده وشعره، لأن الناس بحاجة إلى جديده، كما أنهم بحاجة إلى رأي من نقدوه، عندما استعصى عليهم فك مغاليق مفرداته. فالقضية قضية صراع بين قديم وجديد، لكنه جديد بني على ركائز صحيحة نابعة من إبداع المبدع، وليست مقلِّدة للآخر، نابعة من بيئته، وليست مستوردة مستهلكة، كما هي اليوم. ولم يلتفت الفكر النقدي إلى غير الأدب (شعراً ونثراً) في قضية الحداثة والأصالة، والحداثة في العالم العربي، الذي عانى من بعد عصر التقدم العلمي في العصر العباسي من التخلف والاحتلال والتبعية للآخر، في لغته وسلوكه الاجتماعي وتراثه المعماري، وغير ذلك. وهي نفس المعاناة التي يعانيها ما يسمى بالعالم الثالث، فأول معاناة تعانيها هذه الشعوب، نظام العمارة العربية الإسلامية، فلكل بلد من بلاد العالم طراز معماري مميز، الا العالم العربي، الذي تحولت تقاليده المعمارية إلى ما يشبه العلب، وبالتالي عُلّب الإنسان في داخلها، مما أفقد الكثير هويته المعمارية، فلم يعد الجيل يذكر من عمارته شيئاً، وهذا مما يعد مظهراً من مظاهر التطور المادي.
وقد قلنا ان هذه ليست إشكالية العالم العربي، بل هي إشكالية تاريخية عامة، وإن كانت ذات أهمية بالغة في وضعنا التاريخي الراهن، وفي الأوضاع التاريخية المماثلة. «ولعل الأسباب العميقة، التي يمكن أن نفسر بها هذه الإشكالية تكمن، قبل كل شيء، في كون التاريخ الاجتماعي للبشرية، إنما هو تاريخ التفاعل المتبادل بين البنية المادية للمجتمع والبنية الثقافية التي تلازمها، من غير ان يكون هذا التلازم بالضرورة متوازياً على الدوام في كلتا البنيتين في آن معاً» ميشيل عاصي، في النقد الأدبي، 158.
وهذه الإشكاليات ليست بالجديدة على العالم العربي أو غير العربي، فقد شغلت المفكرين الأوروبيين، في بداية عصر النهضة، كما شغلت العرب من قبل في عصر نهضتهم، وتشغل العربي والعالم الثالث اليوم، وستظل مستأثرة باهتمامهم ما دام الوضع العربي على هذه الحال من التخلف والضعف. وليست هذه الإشكاليات هي العائق في مجال التنمية البشرية، التي تحتاج إلى تنمية فكرية، قبل أن تنمي قدراتها، وخلق فكر متوازن، وهذا التوازن لن يحدث الا بالتخلص من رواسب الفكر الموروث من عصور الانحطاط والتخلف، وقيام فكر حواري مبني على تقبل الرأي الآخر، ما لم يمس الثوابت، ولا يؤل على الثوابت، إن لم يكن منها، وهذا يحتاج إلى عقليات متنورة، تعرف معنى التراث ومعنى المعاصرة، والتعامل مع معطيات الحاضر وأسس الماضي. وإذا كانت الحداثة تعني مواجهة الجمود والتخلف، كما ذكرنا، فإن واجب مفكر اليوم يختلف عن مفكر الأمس، مفكر الأمس، وأعني بداية عصر النهضة (بداية القرن العشرين) داهمته مظاهر الحضارة الغربية في عقر داره، بما تحمل من أفكار ورؤى غاية في الغرابة، وهي الحضارة المادية الغربية، المختلفة شكلاً ومضموناً عما هو مألوف لديه، فتملكه في مواجهتها شعور حاد بالقلق والضياع، لم يستطع معهما استعادة توازنه، ولم يجد أمامه إلا التمسك بتراثه العريق، أما الغالبية فقد قابلوا القلق بقلق مثله، وهم الكثرة، التي ورثت التخلف والتقليد، ولم يكن في أيديهم سلاح علمي معتبر، يدافعون به في وجه الهجمة الغربية المادية، ويتعامل معها بمنطق علمي، ويستفيد من منجزاتها الحضارية، مع الحفاظ على الثوابت التراثية، فبهرته المنجزات الغربية، وتقوقع على نفسه، وبدلا من التعامل معها صار يحاربها بفكر متخلف، اكتسبه ممن قبله ولقنه لمن بعده، معتبراً الشذوذ عنه شذوذاً عن جادة الحق والصواب، وان خلاصه من هذه الحضارة المادية بالتمسك به وتمثله. ولم يفرق ما بين التنوير والتجديد والتطوير، وما بين الهدم الكلي، وبهذه الطريقة استطاع الطرف الغربي التوغل في فكر هذه الأمة، التي أضاعت الماضي، لأنها لم تطور أدواته، ووقف الكثير من أبنائها عاجزاً عن استيعاب الحضارة الغربية والتعامل مع معطياتها الفكرية. بل إن البعض يرفض التقدم والتعامل مع ضروريات العصر، على أنها كفر، وأن من يتعامل معها كافر، ويعتز بالجمود والتخلف، يقول أحدهم (عبدالعزيز العلجي) الذي لا يؤمن بالتقدم العلمي، ويسعى على تنمية التخلف:
«يا عائباً منا الجمود وطالباً
منا التقدم إنك الحيران
إن التقدم لو علمت فخسةٌ
جاءت بها الأوروب واليونان».
ومن جهله لا يعرف ان اليونان في أوروبا. كما جهل بعض المستشرقين بالدين الإسلامي، ففسروه كما يشاؤون، يقول أحد المستشرقين المنصفين (هورتن) الألماني: «لم ينشأ ظن الأوروبيين بأن الدين الإسلامي لا يتمشى مع المدنية إلا من جهلهم بهذا الدين وعدم تعمقهم فيه بل لتعلقهم بالقشور التي لا يفهمون منها إلا ما يكتبون» المنار 7/7.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved