الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th September,2006 العدد : 171

الأثنين 25 ,شعبان 1427

وفيلم الأهوار بين كتابين
قاسم حول

صدر لروري ستيوارت كتاب يحمل عنوان (أمير الأهوار) وكان جيفين يونغ قد ألف كتاباً يحمل عنوان (العودة إلى الأهوار). لا نستطيع أن نطلق على أي من المؤلفين اسم كاتب لأنهما لم يكونوا سوى انطباعيين ينتميان إلى الأجهزة السياسية والعسكرية البريطانية.
رجال السياسية والعسكر في الغرب يختلفون عنا، فهم مغامرون وراغبون في البحث والمتعة والاستفادة والإفادة، ولعل لورنس الذي أطلق عليه لورنس العرب يعتبر مثالاً من هذه الأمثلة عندما كتب مؤلفه الشهير (أعمدة الحكمة السبعة).
فما هي حقيقة الأهوار، ولماذا هذا العشق في زيارتها والكتابة عنها من قبل سياسيين وعسكريين، حملوا كاميراتهم الفوتوغرافية وأقلامهم ودفاترهم ودخلوا في غابات البردي لمعايشة السكان الذين يعيشون صعوبة بالغة في حياة تفتقد تنوع الطعام ونقاء الماء وقسوة الشاي الداكن وخبز الذرة الخشن، حتى أطلق على السكان اسم المعدان فيما هم أحفاد السومريين الذين عاشوا في المنطقة قبل حوالي سبعة آلاف عام.
يطلق على سكان الأهوار اسم (المعدان) وهو جمع لمفردة (معدي) وأطلق عليهم تصغيراً (معيدي) حيث يوصفون بالخشونة وغلظ العيش الذي عرف به المعديون المنتسبون إلى معد بن عدنان وقومه.
لا يزال سكان الأهوار أحفاد الأقوام السومرية يتمتعون بمواصفات أجدادهم فيما يتعلق بالنشاط والحيوية وتنظيم شؤونهم الاقتصادية رغم كل الحروب والأهوال التي مرت بهم في التاريخ القديم والحديث الذي اختلف هو تطور الجنس البشري، فهم يتمتعون بأجساد رشيقة بسبب طبيعة الحياة والحركة المستمرة في الجذف بالمشحوف. ويتمتعون بجمال أخاذ يشكل لوحة ساحرة الجمال مع الطبيعة الجميلة للأهوار. تتميز المرأة بجسمها الرشيق فهي تعمل أكثر مما يعمل الرجل إذ تجمع الأعشاب والقصب وتطعم الجاموس إلى جانب حياتها كأم وزوجة. أكثر النساء بسبب طبيعة الطقس يرتدين ملابس فضفاضة وتزين الخواتم والقلائد والحلي جيد النساء والخواتم الفضية الأصابع ويضعن على الأنف حلية دائرية يطلق عليها الخزامة. وعندما شاهدوا المدفع البريطاني عند احتلال العراق وقد تدلت منه حلقة حديدية دائرية أطلقوا على المدفع اسم (طوب أبو خزامه) أي المدفع ذو الحلية. كما أن أغلب النساء يرسمن الوشم على الوجوه والأيدي. وتتزين المرأة بالفوطة التي يطلق عليها اسم (الشيلة) ما يزيدها جمالاً، فيما المرأة المسنة تشد رأسها بما يطلق عليه (العصابة) بتشديد الصاد، وهي قماشة سوداء. تشدها النسوة غالباً عندما يموت الزوج أو الابن رمزاً للحزن. ويطول حزن المرأة في الأهوار ما بقيت على قيد الحياة عند فراق الحبيب ويطلق على حزنها تعبير (حزن المعدان) أي الحزن الذي يدوم ما دام الإنسان حياً.
هذه الحياة الغربية هي التي حدت بالبحاثة من العسكريين والسياسيين لمعرفة حقيقة هؤلاء الأقوام الذين ينحدرون من حضارة عريقة. وكثيراً ما عاد البحاثة ومعهم رقم نحاسية أو أختام اسطوانية يعود تأريخها لآلاف السنين. إن البحاثة الذين كتبوا عن الأهوار لا يستطيعون معرفة حقيقة سيكولوجية المعيدي وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية، لماذا يعيش المعيدي؟ هل يعيش ليموت؟ ماذا بين الولادة والممات؟ ما هو حلمه اليومي؟ ما هي حدود طموحاته في الحياة؟ شخص وبشر يعيشون فوق المياه حيث تطفو الجزر المصنوعة من القصب ليتم بناء كوخ من القصب فوقها تماماً مثل الكوخ الذي بناه أتو نابشتم في أسطورة كلكامش فوق مياه الأهوار قبل حصول الطوفان. لماذا هذا التوارث وإذا كان أتو نابشتم قد أخافه الموت وراح يبحث عن الخلود فحصل عليه وكذا كلكامش الذي حزن وخاف بعد موت صديقه إنكيدو وراح يبحث عنه دونما جدوى حيث عرف أن الموت قد كتب على بني البشر؟! تحتاج الأهوار إلى بحث ميداني أكثر عمقاً من الرحلات الانطباعية. فالكتاب الأول الذي ألفه (جيفنغ) رحل مع المعدان بأمر من شيوخ العشائر في المناطق المتاخمة للأهوار في منطقة محافظة العمارة حيث كان للشيوخ حظوة لدى الحكومة إبان العهد الملكي، فكان جيفين يونغ يتنقل في الأهوار في زورق أنيق خاص بالشيخ يطلق عليه اسم (الطرادة) وهو زورق فسيح مفروش ينساب متبختراً بخيلاء بين غابات القصب ويمشي أحياناً فوق الورد الطافي على سطح الماء فيشعر الإنسان أنه يمشي في نهر من الورد بثلاثة ألوان الأصفر والأبيض والأزرق. هكذا كانت رحلة جيفين يونغ مليئة بالحنان والهدايا، وأية هدايا.. أنها قطع أثرية صغيرة لا تقدر بثمن. كان سكان الأهوار عندما قاوموا البريطانيين في حربهم ضد الدولة العثمانية يصنعون الذخيرة لبنادقهم من الحديد الذي يذيبونه وكانوا يجمعون الحديد من الأراضي المتاخمة للأهوار يحفرون ويستخرجون صفائح معدنية مكتوبة بالخط المسماري الذي لا يعرفون ماذا يعني وماذا دون فيه من الأحداث والقوانين قبل حوالي سبعة آلاف عام. هذه القطع النحاسية كانوا يصنعون منها الذخيرة ويقاومون بها الإنكليز.. يقامونهم بحرق تأريخهم. جيفين يونغ كان يحمل في جيبه قطعاً من هذه الرقم النحاسية.
أما روري ستيوارت الذي جاء مع القوات البريطانية عام 2003 لإسقاط نظام الدكتاتور في العراق، فقد سحره جمال الأهوار وقدم استقالته من المهمة التي أوكلت إليه وعاد إلى بريطانيا بعد أن قضى مع القوات البريطانية بضعة سنوات ليعود بعدها بانطباعات عن سكان الأهوار وطبيعتهم الصعبة وعسر التعامل معهم والدخول إلى عالمهم. وعاد روري ستيورات بدون هدايا من الرقم الاسطوانية وبدون أختام لسرجون الأكدي. المعيدي شخص يبدو غامضاً غير سهل الدخول إلى عالمه ومعرفة نواياه. لا يشعر بالطمأنينة لأهل المدن معتقداً أنهم خذلوه على مر التأريخ، ولعل تجفيف مياه الأهوار ورمي سكانها على الحدود كان ذروة الأحداث التي رسخت الانطباع لدى المعدان بأن ابن المدينة يضمر لهم الشرور دائماً وهو مثل الخنزير البري قد يفاجئهم بالهجوم في أية لحظة يكون فيها المعيدي نائماً في كوخ القصب.
كاتب هذه السطور عمل فيلماً عام 1975 عنوانه الأهوار وقد أتلف نظام الدكتاتور هذا الفيلم عندما قرر تجفيف الأهوار حتى لا يبقى الفيلم شاهد حقيقة الجمال وجمال الحقيقة. كاتب هذه السطور ومخرج ذلك الفيلم يقوم الآن بإخراج فيلم جديد يحمل عنوان (قصة الأهوار) يبدأ الفيلم من ميثولوجيا الخليقة في الأسطورة السومرية وينتهي بالحلم عن الأهوار في صيغتها لو أراد المجتمع الدولي أن يقدم للعالم صيغة حضارية للأهوار دون المساس بطبيعتها كرد على تلك الكارثة التي حلت بالمنطقة بيئياً وإنسانياً عندما قام الدكتاتور وبتواطئ مع بعض رموز المجتمع الدولي بتجفيف المنطقة ورمي سكانها على حدود إيران؟! الفيلم قصة الأهوار سيتناول هذه القصة الطويلة منذ الأسطورة وحتى الحلم وما بينهما. تعتبر منطقة الأهوار ربما أجمل منطقة مائية في الأرض. ولو سادت العراق حالة من الاستقرار ونظمت الأهوار على شكل أكواخ طافية فوق المياه عصرية التكوين مضاءة بالكهرباء وتتحول الزوارق إلى ما يشبه طرادة الشيخ المفروشة بالفرش الأنيقة ولو أنشئت الفنادق العائمة لتحولت هذه المنطقة إلى حلم ليس في فيلم كاتب هذه السطور ولكن على مياه الواقع!


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved