الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 18th October,2004 العدد : 81

الأثنين 4 ,رمضان 1425

هواجس3
بيتنا
نورة الغامدي
سلام (يا بيتنا)
سلام (يا بيتنا).. هذه عيون مشتاق تأتيك زائرة منتصف كل شهر ولسان حالها يقول:
انتبانا الشوق لما غبت يا قمر
يا كم سهرنا مع الأيام ننتظر
ونحن حين نزوره لا نزوره كشاعر يبحث عن بيت شعر تاه منه ولا نزوره كالبدوي الذي ينصب خيمته ويشعل نيرانه للضيف والسمار ولا نزوره كعاشق ضرب موعدا غراميا لحبيبته لتروي لهفة في قلبها وتطفئ رعشة في روحه.
بل نزوره كساكن يعلم أن هذا بيته ومحيطه ومنتهى أمله حيث يتجول به بحثا عن أليفه عن نصفه الآخر الذي يملأ معه جنباته.
فعلى مر العصور وحلم المرأة هو بيت دافئ ورجل محب لتكتمل دورة الحياة.. إنها الأمنية السرمدية ولعل الطبيعة والتكوين البشري ماض في تحقيق الحلم لكل امرأة.. إلا امرأة واحدة لا تزال منذ بدايات التاريخ تقف في ساحة بيتها الكبيرة وحيدة بيت لم ترثه عن أب أو جد ولم تبنه طوبة طوبة بل بيت من رمل وصخور وحجارة.. وهي حين قررت أن تدخله سافرت عبر رحلات الرواد نحو الفضاء لتتعانق مع اكتشافاتهم عندما هبط الرائدان نيل أرمسترونج وإدوين الدرين من الولايات المتحدة الأمريكية على السهل الصخري المعروف (ببحر السكون) هذا الهبوط فوق تلك البقعة الصخرية دل تلك المرأة على أنه من هنا مدخل بيتها.. بحر السكون أصبح البوابة والمعبر إلى حيث ننام ونصحو ونتشاجر ونتفق.. هناك في الوجه البعيد للقمر بيت الحلم بيتي وبيت الرجل الذي اخترته شريكا ومؤنسا ودافعا للعيش والحياة والتمرد والجنون.
فالبيوت في عيون البشر بيت واحد وهذه نظرة قاصرة قد لا يتفق معي فيها الكثير فكم من بيوت نسكنها ونحن عنها أغراب نوجد فيها هكذا بفعل الجد والأب.. هم شيدوا وأقاموا وأوجدونا لنكون مع جدران ما صنعوه علاقة تشبث الدافع فيها الخوف والمحفز لها الشعور بالأمان.. إنها بيوت العقل التي من المحال أن تتواءم مع بيوت الحلم.. لأن بيت العقل هو ما بناه الأجداد أما بيت الحلم فهو ما أنجزته حناجر الأجواد من امرئ القيس مرورا بعمر بن ابي ربيعة حتى غازي القصيبي وابن جدلان وابن قالط أولئك الذين زعزعوا نخيل جنوبنا شعرا ليتراقص معهم ومع غيرهم (وبيتنا) الذي نتسلل إليه منتصف كل شهر في الذاكرة الخؤون ركد اسمه وبردت صورته بفعل تسارع الزمن بيتنا هذا (القمر) المنسي في السماء البعيدة من الذي لا يزال يتذكره ليزوره ويشتري من أجله الزهور وينثر على جسده قبل أن يتهيأ لزيارته العطور والروائح الخفية ليطرق أبوابه وهو في أوج طبيعته بلا مساحيق ورتوش وإنما بروائح وأغنيات وعيون تلمع لتطرق أبوابه المنحوتة من الهواء والرمل والشجر الجاف وحشرات الليل وبقايا مخلفات وطريق اسفلتي كئيب هاجع كحية بلا ناب وسم متروكة تحت هذه الوردي الأبيض الهادئ الذي يفتح بواباته الصغيرة لكل قلب أدرك أن بيوتنا القديمة
تتناهى في الصغر كلما كبرنا فمنزل العقل نراه رمزا للسلام والأمان والسكنى.. نلوذ بجدرانه وأركانه ونصنع فيه ذاكرتنا وتفاصيل حياتنا البسيطة وكلما كبرنا تضاءلت جدرانه وضاقت مساحاته إلا (بيتنا).
بيت الحلم الضارب في الأبدية الذي ندخله دون تعب فهو لا يكلفنا إلا حركة صغيرة من أعناقنا باتجاهه ذلك الفعل أتقنته المرأة الوحيدة التي لم تستوعبها بيوت العقل ولم تملأ عينيها أو تثنيها عن عزمها في الرحيل إلى بيت الحلم عن طريق البوابة الجنوبية لمدينتها التي تسكنها.. ففي غفلة من العيون تتسلل كخفة الظل لتعبر الطريق الاسفلتي الضيق حيث الفندق العتيق الساقط من السماوات يقف بهجوع على رمل ديرتنا الجاف بجدرانه الصخرية الغائمة وأرضيته المفروشة بتراب قمري رمادي يتمدد بتعرجات غامضة تحت مقاعد جسد منسوج من رياح الشمس مهيأ لجلوس الحبيب الذي ضربت معه موعدا في السابع عشر من ليلة ذابت في الأمس وتحللت ذراتها في فضاء الليل القمري الذي أغمض نصف عينيه في ضياع جميل وتمرد ممطر كأعمى (بيتهوفن) الذي سأله كيف هو شكل القمر فقال (بيتهوفن) سأعزف لك سوناتا إذا سمعتها ستعرف شكل القمر وتتخيله.
فقمر السابع عشر لا نحتاج إلى ضوئه قدر ما نحتاج إلى خيال الأعمى الذي أبصر القمر من خلال سوناتا (ضوء القمر)،التي بدأت تتراجع أمام تململ (بيتنا) الذي سببه طول الانتظار فبدأ يزفر زفرات
حارة كلما رآها تعبر نحوه مرتبكة
وحائرة من تلك الأيادي التي بدأت تسطو على حدوده فإن إدارت وجهها نحو الشمال والغرب آذتها أضواء المدينة وإن أدارت بصرها نحو الشرق كسرت نظريتها أضواء النيون البيضاء الفاقعة لتلك البوابة الغريبة والنشاز والتي سقطت من فضاء الرحب.. وإن التفتت نحو الجنوب خطف قلبها هدير العربات المتطايرة فوق الطريق الإسفلتي.. هذا الخنق الحضاري الزاحف تحت شعار المدنية والعمران جعل امرأة البدايات تعمد إلى أسلوب العشاق قديما.. فضربت للموعد موعدا وكانت وهي تضرب الموعد الخفي تعرف أن أليفها المنتظر في سكنى بيت الحلم لا يعرف العنوان ولا وصف بيت لا ماء حوله ولا هواء ولا شجر ولا مطر بل بيت قائم وسط الكون ككرة ملساء محاطة بهالة ترتجف فوق بحر السكون المنفرج عن أشعة لامعة متناثرة بانتظار أن يجمعها صوته ويده حين يعانق حبيبته على نغمات سوناتا (ضوء القمر) التي تحركها أصابع (بيتهوفن) على ذلك البيانو القديم المتواري تحت جبل أبيض هو حارس الليل الذي تكفل بحراسة كل من نبذ بيت العقل واختار بيت الحلم.. ذلك الحارس الأبيض الصامد وسط السواد والجفاف والغبار لا يعكر سكونه سوى حركة الطائرات فلا يتوانى في ضم الجسد الواقف وحيدا بانتظار الساكن الشريك في بيت الحلم والذي لم يأت لأنه لا يرى الجدوى إلا في بيت العقل.. فالجاذبية المعدومة تربكه وتحد من إقدامه فلا يأتي للموعد المضروب.. فيحن الأبيض محتويا قلبها خوفا من أن يطير بفعل انعدام الجاذبية روحا مبعثرة كشعاع على ماء متحرك. (بيتنا القمر) وأنا وحارسنا الأبيض الناعس اليقظ جميعنا هناك نقف بانتظارك وعلى أصابعنا لغة الخيام وفي عيوننا مضارب تبكي القبيلة والزمان الأجمل.. نلهو بالليل وبالرعاة وبالسائرين في سراديب بيت العقل الذين استرخت أجسادهم على أمجادهم وعقولهم المثقلة بأوهام الطنافس الثمينة من رخام ونيون وأشجار زينة تحوط مجالسهم وزهور صناعية تزين مكاتبهم دون أن يكلفوا أنفسهم ويرفعوا أعناقهم قليلا ليعبروا الطريق الاسفلتي الخشن ويتجاوزوا أضواء المدينة الحارقة ليعبروا الزمن الثقيل باتجاه (بيتنا وبيتهم) بقلبهم الصغير قلبهم المكور كحبة (عنب حمراء) مملوءة بالماء والسكر والورد ومخلوطة بالطين والخطايا وبشرية البشر التي هزج بها ابن زيدون الوزير الأندلسي لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا إذ طالما غير النائي المحبينا سلام يا قمر (ديرتنا) ابدا لن تلهينا عنك ألوان المرايا وفسيفساء الحياة المرفهة وبيت العقل البارد كالثلج.. فقط ابتسم لنا وزين معبرنا بحر السكون بالشجن إذا أقبلنا عليك في السابع عشر من كل شهر لنحيي معا ونجدد سويا ذكرى الموعد المنسي. سلام عليك يا بيتنا.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved