الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 18th October,2004 العدد : 81

الأثنين 4 ,رمضان 1425

«1» قراءة في كتاب (خواطر مصرحة)
المروة والصفاشرارة التنوير الأولى
تنوّرها: سحمي الهاجري *

القسم الأول: الجذوة
«1» اللحظة الفاصلة
بعد صلاة الظهر في أحد أيام عام 1345هـ, وقف مدير مدرسة الفلاح بجدة الشيخ حسين مطر, وأعلن أمام الطلاب أن محمد حسن عواد كان تاجا على رأس هذه المدرسة, ولكنه بعد أن أصدر كتاب (خواطر مصرحة) فقد مكانته فيها.(1)
كانت هذه هي اللحظة الفاصلة والشرارة الأولى في خطاب التنوير النقدي والإبداعي مع بداية اتحاد أقاليم المملكة.
تكشف عبارة مدير المدرسة كيفية اشتغال المنظومة التي تحكم المجتمع في ذلك الوقت، كان يراد للعواد أن يظل (تاجا على رأس المدرسة) أي مجرد (إكسسوار), أما وقد تعرض بعمق للمنظومة السائدة فإنه قد فقد حتى هذه الميزة الشكلية.
إن المعرفة خطرة في مجتمع رتب أموره على أساس الجهل المنظم, ومن ثم يصبح تداول المعلومة كمن يشعل ألعابا نارية في مستودع مليء بالمتفجرات.
وغالبا فإن الأفكار التي أطلقها الكتاب من عقالها معروفة ومتداولة, ولكن الانتقال بها مما يشبه الدعوة السرية إلى الفضاء العلني هو مكمن التأثير, وقد حرص العواد على هذه العلنية حينما دوَّن وأبرز عنوانه واسمه الثلاثي بعد سنوات من النشر بأسماء مستعارة, وخصوصا في جريدة القبلة.
حدث الارتطام بين الأفكار البيضاء للشاب الغض محمد حسن عواد, والخطاب الاجتماعي الذي كان قد جمد وتجلمد وخمدت شعلته, ومع أنه خطاب راسخ, ويتمسح بمرجعيات عريقة, إلا أنه لم يقد المجتمع إلى النهوض والتقدم, ومواكبة مسيرة الحضارة الإنسانية, إذ انه قد توقف عن القدرة على ذلك منذ زمن بعيد.
هكذا إذن أصبحت واقعة الاصطدام حادثة ذات دلالة رمزية, اكتسبت المزيد من البريق بمقدار رد الفعل الذي أثارته, فولدت تلك الشرارة التي كان لها ما بعدها.
عنوان هذه الدراسة هو (المروة والصفا) وهو عنوان يتجه نحو الفضاء الأصلي للغة في تعاملها مع الطبيعة البكر, على اعتبار أن اللغة دائما تعني أكثر مما تقول.. وأنها ذلك النداء الأصيل الذي تتكلم به الأشياء من خلالنا, وهي نبض الأشياء ووجودها الحي الناطق(2).
والعنوان في هذا السياق يمزج بين المعنى في إطار علاقات اللغة الداخلية, والإحالة إلى علاقاتها الخارجية, بحيث يتعدى مجرد المقلوب الشكلي لعبارة راسخة بما يوحي بالانقلاب على الثقافة السائدة ليحيل إلى احتفاء اللغة بانطلاق الشرارة التي تتولد عادة من احتكاك عنصرين ربما كانت مادتهما متشابهة ولكنها ليست متماثلة، فإذا كان الصفا هو (الحجر الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئا)(3). فإن المروة هي (الحجر الأبيض الهش يكون فيه النار (أو كما قال الأعرابي) هي تلك القداحات التي تكون فيها النار)(4). ولكنها لا تقدح إلا باصطدامها بجسم أصلب منها.
إن النار بصفتها أحد الأقانيم الأساسية التي بنى العواد كتاب خواطر مصرحة عليها تقوم بفعل مزدوج ( الإنارة/ والحرق)، فالسيف المسلول في يد هزازة (يبرق ويضيء) ولكنه في نفس الوقت (يرسل شررا).(5) ومشعل النار المرفوع باليمين (لأننا في ظلمات)(6) ومهمة المشعل في الظلمات الإنارة والكشف أما في الضوء فإنه يأخذ معنى آخر: شعلة احتفالية مثلا.
ويصف أحد الشعراء بأن الشعر (يشع من مصباح دماغه الفوار المشتعل)(7)
فنجد في المصباح والنار تلازم التنوير والكشف بالإحراق.
ويحيل تتويج الكتاب إلى فضاءين متباعدين زمنيا، آية قرآنية, ومقولة حديثة(8), وما بينهما محروق.
كان هذا هو منهج العواد, والمجموعة التي تحيط به، الذين يقول الآشي في وصفهم (الشباب الحجازي المتأدب إذا كتب للأمة فإنما يكتب بأقلام من حديد, ومداد من الغاز الخانق على صحائف من نار).(9)
ويكشف الوهج الذي أحدثه الكتاب العديد من الفضاءات، فالصورة الذهنية للحجر الصلد الضخم تحيل إلى معان مثل الصرح والقوة، حيث تكون الصراحة في حضرتهما في أعلى مراتبها، أي درجة: قول الحق.
وهي صراحة مقصودة، قدم لها بمشاغبة تشبه إدخال الإصبع في العين، بدفاعه عن تعويم ما تقتضيه لزومية جذر كلمة (مصرحة) لدى النحويين، محتجا بالذوق العربي السليم قبل فساده فيما بعد بجمود وتحجر الثقافة السائدة، التي يصدع في وجهها بالحق، ويستهدفها بالحرق.
وهذه الكلمة تحمل دلالة مزدوجة، المعنى الظاهر، ومعنى آخر خفي، فكأن صرحية الصفا استدعت حروف الصاد والراء والحاء مع زيادة في البنية بالاشتقاق وصيغة المبالغة لتقوم بوظيفة الصرح الفكري مقابل الصرح الحجري.
وفي المخيال الشعبي صورة راسخة للكلام القوي الذي يهدم الصروح والأوثان.
وهي فكرة راسخة لدى العواد، ما فتئ يستعيد تنويعاتها بين آونة وأخرى في أعماله الإبداعية والفكرية.
قصيدة (يد الفن تحطم الأصنام)...مثلا(10)
«2» السياق
صدر الكتاب في فترة الأخدود السياسي بين عهدين، في تلك اللحظة التي كان الناس فيها قد سئموا من انعدام الأمن، والشعارات الكبيرة، التي ليس لها ما يقابل بريقها في واقع حياة الناس، فقد كانت البلاد في حالة تأخر شديد، ويكفي للتدليل على ذلك أن العواد في هذا الكتاب كان يتمنى أن تكون جدة وأهلها في مستوى أسمرة!! أو السويس!! أو بور سودان!(11).
وهذا جعل الملك عبد العزيز ينتهج سياسة واقعية مبنية على معرفته العميقة بتعقيدات المعادلة المحلية والإقليمية والدولية، فاتجه نحو الإنجاز الهادئ المتدرج، وبناء الدولة على أسس حديثة مما ألهم قوى الشعب الحية المتطلعة إلى حياة أفضل وجاء ذلك على المستوى الإجرائي بإعطاء هامش من الحرية للأدباء الشبان اتضح أثره في تعبيراتهم:
(أمامنا الحرية بأنواعها)(12)
(حيهلا بالحرية الفكرية)(13)
لقد أعطت السلطة السياسية الجديدة إذن ضوء أخضر عبر عنه الآشي صراحة بقوله في مقدمة الكتاب (نكتبه على حسب ما تلقينا من الحرية الأدبية)(14)
وكانت هناك كثير من الرؤى المشتركة بينهم وبين السلطة، يقول العواد في استرجاعه لذكريات تلك الفترة (وجدنا في تعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب
النور والحرية والإشراق والصراحة، وأخذ الدين كرباط ونظام.
ووجدنا في تعاليم مدرسي مدرسة الفلاح العبث وإضافة الخرافات والتزيدات والمزايدات التي ما أنزل الله بها من سلطان.. فكنا ننفر من هذا)(15)
من هذه الرؤى المشتركة بين السياسي والثقافي أصبح هناك عملية فرز، وروحية جديدة في البلاد، وعنوان مقدمة الكتاب نفسها يركز على (الخواطر وملاءمتها لروح الحالة النفسية في الحجاز). (16) ويشير إلى وجود حالة جديدة خلقتها رغبة السلطة السياسية في إرساء دعائم الدولة الناشئة.
ولكن انفتاح السلطة السياسية، يقابله انغلاق اجتماعي شديد، والعواد عرف ذلك ووعاه ورفضه حينما قال (بالرغم من إرادة قومي تجرأت) (17) فكلمة (تجرأت) تشير إلى أن هامش الحرية الذي وفرته الدولة لم يكن يقابله تسامح اجتماعي، وهو ما عناه العواد حين وصف نفسه في موضع آخر من الكتاب بأنه (كاتب حجازي محدود الحرية) (18) حين يكون تغول المجتمع شديدا ضد الفرد، أو مجموعة أفراد متجانسين، يتحول جزء من تغول الدولة في العادة إلى منافسة تغول المجتمع، لأنه لا يجتمع سيفان في غمد، وفي هذه المنطقة تلتقي بالمصادفة البحتة مصلحة هؤلاء الأفراد المتنورين مع مصلحة الدولة.
كان هذا ما حدث في تلك الفترة، ولذلك كان الظرف السياسي مواتيا لتكون لهذه المجموعة من الأدباء شخصيتهم المستقلة، وصوتهم المسموع، حتى ولو كان معاكسا
لعادات المجتمع وممارساته.
يقول الآشي في مقدمة الخواطر: (إذا كان للشباب الحجازي المتأدب اليوم ميزة أو سيماء خاصة به فليس إلا الروح الحية فيه وباندفاعه بقوة في طلب الرقي وبثوران نفسه ونشوزه على كل قديم يوقف تياره، ويقف حائلا دون مرامه، وما مرامه إلا توخي الكمال في جميع مظاهره والحرية التي تفسح لفكره مجال الرأي ولنفسه ميدان العمل فيرى الأشياء كما يجب أن ترى، ثم ينطق ويعمل حسب ما رأى)(19)
هذه العبارات تكاد تشخص أدواء المجتمع، وهي الموات, والضعف، والتخلف، والخمود، والنقص، وفقدان حرية الفكر والتعبير، وعدم الواقعية في الرأي أو العمل.
والمعروف أن أغلب طليعة الأدباء الشبان من مدرسي وطلبة مدارس الفلاح، كانوا يتداولون أفكارهم بينهم، وهي أفكار تعبر عن مشاعرهم، وتفتح أفق آمالهم، وتسري عنهم، وكان لهم (منتدى صغير يجتمعون فيه مساء كل يوم) (20)، والعواد هو أكثرهم جرأة على الاقتحام لتنوير الناس واستنهاضهم، لشعوره بأن معركته خاسرة إذا ظلت فردية، أو في إطار مجموعته المحدودة، لاسيما أنه وجد الفرصة مواتية في ظل السلطة الجديدة بعد سنوات من الاحتقان وحان الوقت لتشخيص أدواء الأمة، ومحاولة إيقاظها من سباتها، تلك الأمة التي وصفت في مقدمة الكتاب بأنها: (استلذت الراحة واستطابت الهجوع وتطامنت للذل لا يوقظها ولا يثير كوامن شعورها إلا الصراخ الشديد في وجهها)(21)
وفي خلفية الصورة كان محمد سرور الصبان، الذي فهم شروط المرحلة فطفق يتولى التشجيع، والتحريض، ويحاول دفع هذه المجموعة من الأدباء إلى مقدمة الصفوف، وسيلته إلى ذلك إثارة الجدل والنقاش حول القضايا اللغوية والفكرية والاجتماعية، مثل ما فعله حين طرح سؤاله حول اللغة العربية، وبعثه إلى عدد كبير من الناس، وكانت صيغة السؤال: (هل من مصلحة اللغة العربية أن يحافظ كتابها وخطباؤها على أساليب اللغة العربية الفصحى، أو يجنحوا إلى التطور الحديث، ويأخذوا برأي العصريين في تحطيم قيود اللغة، ويسيروا على طريقة حديثة مطلقة).(22)
وهوسؤال ملغوم، يكاد يختصر دعاوى الطرفين، التقليديين والعصريين، فهو يريد تحريك الساحة الراكدة، ويتيح الفرصة للأدباء الشبان ليعبروا عن وجهة نظرهم علنا، لأن رأي التقليديين معروف سلفا. وطبيعة الأخدود السياسي طبعت كل ما حدث في سياق صدور الكتاب، فعلى مستوى الدولة، كان التشجيع، والتوظيف، والمراقبة، وعلى مستوى الطليعة المتنورة كانت الجرأة، والاقتحام، والمغامرة، وعلى مستوى التقليديين المسيطرين في ذلك الوقت على مفاصل الحياة الاجتماعية كان التشبث، والحذر، والانتظار.
«3» التكوين
ثلاثة روافد أساسية ساهمت في تكوين ثقافة العواد وشخصيته:
الرافد الأول/ تحصيله العلمي
درس العواد في مدارس الفلاح بجدة، وكان أحد طلابها المبرزين، حتى أنه انتدب
لتدريس مادة البلاغة بدلا من المدرس الأزهري الذي كان الطلبة لا يستوعبون طريقته في التدريس، فكان طالبا ومدرسا في نفس الوقت.
(23) ونجد في هذه الفترة أمرين لهما دلالة خاصة:
1 قبل دخول الشاب الصغير إلى المدرسة ألحقه والده بمكتب (محمد حمود) في الخاسكية بجدة، لتعلم فن الخط (24)، أي أن بذرة الإبداع قد تبرعمت في وجدانه منذ نعومة أظفاره، إضافة إلى لمس ما يدور في عالم المكاتبات التجارية التي تحكمها عوامل السوق، فاحتك بواقع الحياة البعيد عما تحتويه بطون الكتب الصفراء القديمة، عكس الآخرين الذين كان آباؤهم يلحقونهم بالكتاتيب فتطبعهم بطابعها التقليدي الخاص قبل دخول المدرسة النظامية التي هي في الغالب امتداد للكتاتيب في موادها وأفكارها ومناهجها.
2 هذه المناهج كانت تنطوي على عوامل طاردة لذوي العقليات الإبداعية، مما خلق لديهم الحاجة الملحة للبحث عن مصادر أخرى للعلم والمعرفة، يقول العواد عن ذلك: (مدرسة الفلاح في تلك الفترة كانت تدرس الدين بطريقة فيها شيء من الخرافات.. فكنت وزملائي الطلبة نرتاد مكتبة الشيخ محمد أفندي نصيف للقراءة، ومن ضمن ما نقرأه كتب الدين، وكتب الإصلاح الديني، وخاصة كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب..
ووجدنا الفرق بينها وبين ما يدرس في المدرسة من آراء وعقائد وتعاليم دينية فرق شاسع) (25) مما دعا العواد في مرحلة لاحقة إلى وصف جهوده التنويرية بأنها بمثابة تمرد على طريقة مدرسة الفلاح.(26)
الرافد الثاني/ قراءاته ومطالعاته
استفاضت المراجع في عرض قوائم بالكتب والصحف التي كانت تصل إلى الحجاز ويتداولها المثقفون. ولكن تظل عبارات المعاصرين لتلك الفترة تحمل دلالات مهمة، لا تتوفر بهذا القدر في سواها، فالآشي يسميها (الأسفار الثمينة التي تجود بها أفكار بني اللغة الأحياء وأدمغة رجالها المتنورين الأحرار) (27) أوحسب تعبير المغربي جعلتهم (يفتحون عيونهم على ما تحفل به الصحف المصرية من نثر وشعر وما تنتجه المطابع العربية من ثمرات القرائح والأفكار للأدباء العرب في مصر وسوريا ولبنان، بل وفي المهجر، فقد كانت هناك الرابطة القلمية ولها مجلة تصدر في نيويورك وكانت تنشر آثار الأدباء السوريين واللبنانيين المهاجرين في أمريكا، كما تطبع مؤلفاتهم، ومن أبرزهم جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهم) (28)
وهذه العبارات في حقيقتها نقد للخطاب السائد في ذلك الوقت, وقيمه، ومرجعياته، فالأسفار الثمينة تقابل الأسفار غير الثمينة، والأحياء تقابل الأموات، والمتنورون تقابل غير المتنورين، والأحرار تقابل غير الأحرار، وفتح العيون يقابل إغلاق العيون.. وهكذا.
وفي كتاب (خواطر مصرحة) نجد في أكثر من موضع نوعية الكتب التي قرأها العواد، فهو يذكرها اما في سياق الاستشهاد بها، أو إسداء النصيحة للآخرين لقراءتها، مثل كتب ابن تيمية، وابن حزم، وابن القيم، وفريد وجدي، وابن الحاج، والشافعي (29)، وديوان المتنبي، ونظرات المنفلوطي، ومترجمات فولتير وموليير، وشكسبير وبايرون، وجوته.(30)
كما حفل الكتاب بنقولات من ابراهيم اليازجي (31) ميخائيل نعيمة (32)،
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved