ولكن ما لنا ولهذه الفلسفة وقد مضى عهد المهجرين منذ زمن طويل، ولماذا لا أحدثكم عن بعض الرفاق الذين زاملتهم في هذه الرحلة، وأولهم الصديق الدكتور محمد الشامخ، ولي معه قصة طويلة تبدأ من الطفولة أو الصبا في معهد مكة المكرمة، وتمر بالعجوزة والدقي والجيزة بالقاهرة، ثم بسويس كولج وفينشلي رود وراسيل سكوير في لندن، لتعود مرة ثانية إلى ملز الرياض والجامعة. كان قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة الملك سعود سنة 1379هـ/1959م يتكون من أربعة أشخاص فقط: |
الأستاذان مصطفى السقا وأحمد الحوفي والمعيدان الشامخ والحازمي. كنا أربعة في غرفة واحدة. الحوفي منشغل طوال الوقت بالكتابة يبدو أنه يؤلف في أوقات الدوام الرسمي والسقا يشارك في إدارة الجامعة والقسم، ويغفو أحياناً على كرسيه الوثير ولا يصحو إلا على مسألة نحوية. أما الشامخ وأنا فكنا نحلم ونستعجل الرحيل إلى بلاد الإنجليز، ونتحمل ثقل المحاضرات ونؤديها على مضض. |
واستقبلنا في لندن صديقنا الهمام عزت خطاب. كان يلبس معطفاً وقبعة ويحمل مظلة ويرطن بطلاقة. لم نحسده إلا على فصاحته وخفته وخبرته المتناهية بخرائط لندن وأنفاقها، وحسن اختياره للأطعمة الهندية. |
وبعد اغتراب طويل مع اللغة والأحياء والطبيعة والبشر ذهبت والصديق محمد الشامخ إلى البروفسور سارجنت المشرف على دراسات الشرق الأوسط بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن وقلنا له بلغة إنجليزية مهذبة: |
ها نحن قد اجتزنا امتحان اللغة الإنجليزية ونريد أن نبدأ الآن في تسجيل الرسالة. |
قال: وهل عثرتما على موضوعات بعينها؟ |
قلنا: وقد بيّتنا الأمر نعم، الأدب المقارن، ربما جبران ووليم بليك، ومدرسة الديوان ونقاد الرومانسية من الإنجليز. |
فهز رأسه الضخم وقال: |
عظيم، ولكن هل تعرفان شيئاً عن الأدب الإنجليزي؟ |
فهززنا رؤوسنا المتواضعة بالنفي، واستدركنا بأن الأمر غير ميؤوس منه تماماً، وبإمكاننا أن نتعلم، فنحن والحق يقال لسنا في عجلة من أمرنا، وبعثتنا مفتوحة إلى ما لا نهاية. |
فأطرق الرجل هنيهة، ثم أدار بأصابعه الضخمة قرص التليفون: |
آلو، بروفسور بولو، يأتيك غداً فلان وفلان أرجو تسجيلهما مستمعيْن معك في محاضرات النقد. |
ثم التفت إلينا وقال: |
اذهبا غداً إلى البروفسور بولو بكنجز كوليج، فهو سيتدبر الأمر. |