Culture Magazine Monday  19/02/2007 G Issue 187
فضاءات
الأثنين 1 ,صفر 1428   العدد  187
 

خطاب النخبة الثقافية العربية وأساطير ما بعد الاستشراق (3)
فاضل الربيعي

 

 

جاءت الخطوة البريطانية بإرسال الوفد النسائي الإنجليزي إلى العراق، في أعقاب عودة وفد نسائي من الكونغرس الأمريكي يوم 2 تشرين الثاني - نوفمبر 2003م من زيارة تركزت على جولات في بغداد والموصل. تقول إيلينا روس ليتنن عضو الوفد ما يلي: (لقد التقينا نساء من مختلف الطبقات الاجتماعية. بعضهن على درجة عالية من الثقافة. كانت تطلعات غالبية النساء واحدة بغض النظر عن أوضاعهن الاجتماعية). هذا التصريح المقتضب يمكن أن ينسف من الأساس (الصورة الأفغانية) للمرأة العراقية كما أنشأتها وسائل الإعلام الأمريكية؛ ذلك أن وحدة التطلعات بالنسبة لنساء من مختلف طبقات المجتمع، أي مجتمع وبصرف النظر عن الدين والثقافة ودرجة الرقي الاجتماعي، هي دليل قاطع على أن هذا المجتمع وفي أحلك الأوقات مكن قطاعاً أساسياً منه، بقوة الثقافة والتقاليد والتعليم الحديث على حد سواء، من تحقيق حضور ديناميكي لحياته الداخلية والاجتماعية؛ فهن طبيبات ماهرات ومدرسات ومهندسات وعالمات.

ومع ذلك ظلت النظرة ما بعد الاستشراقية طاغية على الطريقة التي رأى فيها الوفد النسوي الأمريكي نساء العراق؛ فقد رأت السيدة سو كيلي أنهن أميات في الغالب (نحو 70%). فجأة تلاشى حضور النساء العراقيات العالمات وتبدد في الفضاء؛ وحلت صورة أخرى زائفة لنساء (أميات) و(مقهورات) ينتظرن رحمة الغرب الديمقراطي.

هذه النسبة التي أعطتها كيلي عن أعداد النساء (الأميات) في العراق الذي لم يجر (تحريره بعد) لا تنبني على أي معطى دراسي له قيمة علمية، كما أنها لا تستند إلى تقرير إحصائي حقيقي؛ علماً أن العراق حاز على جائزة اليونسكو لمحو الأمية عن السكان منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وأصبح مجتمعه منذ الثمانينات يعج بعدد هائل من العالمات والطبيبات والمهندسات، وهو البلد الشرق أوسطي الوحيد الذي تملك فيه نقابة المهندسين أكثر من مئة ألف عضو، بينهم عدد كبير من النساء الشابات. على وجه أدق، تنتمي هذه النسبة (الاستشراقية) أي نسبة النساء اللواتي أمكن التعرف على أوضاعهن في بغداد والموصل إلى ثقافة بعينها مشحونة بالصور النمطية السكونية عن نساء الشرق.

كل ما فعله علم ما بعد الاستشراق الزائف أنه أعاد إنتاج صور الاستشراق الكلاسيكي عن النساء، ولنقل انه قام بتعديل طفيف وغير جوهري عليها وبحيث تتلاءم مع متطلبات السياسيين والمخططين الاستراتيجيين الغربيين. هؤلاء الذين لا يريدون سوى رؤية الشرق وقد أضحى سجين خيارات الماضي.

إن الإسلام -من وجهة نظر ما بعد الاستشراق- هو خيار خطير من خيارات الماضي، تسبب على الدوام في وقوع نساء الشرق العربي في فخ التخلف وبطء التنمية.

إنه إسلام (مسؤول) عن (تدهور أوضاع النساء) ولا سبيل إلى (التخلص) من عبء نتائجه سوى (بالتحرر) منه؟ ولكن ما السبيل إلى تعليمهن وتدريبهن؟ تضيف كيلي وزميلتها جنيفر دان عن ولاية واشنطن: (لقد زرنا معهداً للشرطة كانت تتدرب فيه بعض النساء ليصبحن عناصر في الأمن). هذا هو المفتاح السحري لتحرير النساء: الزّج بهن في قلب العمل الذي يكرهه الغرب نفسه، أي في قلب العمل الذي يؤدي إلى تضخيم أجهزة القمع؟ كانت فكرة الحداثة المطلوبة في الشرق العربي المسلم، كلّها إذن، ومن منظور ما بعد الاستشراق، تتمركز في نقطة وحيدة: تدريب النساء ليلتحقن بجهاز الشرطة؟ وتماماً كما تصرف الأمريكيون مع نساء طالبان في أفغانستان، عندما عملوا على تركيز أبصار العالم كلّه على الصورة الوحيدة للمرأة الأفغانية (ما بعد طالبان) أي صورة المرأة التي تتلفع بالشادور، كدليل على (اضطهادها) وحيث ُنزع الشادور التقليدي الأفغاني عندئذ، وجرى على وجه السرعة التقاط صور مثيرة للنساء الأفغانيات الساحرات ذوات العيون الكبيرة؛ كما جرى على عجل تدريب بعضهن ليلتحقن بجهاز البوليس الداخلي؛ فإن نساء الكونغرس الأمريكي سوف ينظرن إلى المهمة الوحيدة المتروكة لنساء طالبان العراقيات على النحو ذاته: إعادة إنتاج ولنقل تكرار النموذج النسوي الأفغاني عبر (نزع الشادور العراقي) والالتحاق بجهاز البوليس.

على هذا النحو تلاشت صور النساء العراقيات المهندسات والعالمات والطبيبات، وحلت محلها صور نمطية جديدة، تظهر فيها جموع صغيرة ذات طابع استعراضي من النساء اللواتي حرمهن النظام السابق من الالتحاق بدورات الشرطة؟ هذه الانطباعات الزائفة وما بعد الاستشراقية عن النساء العراقيات كانت تستمد أهميتها من كونها ذات طابع أسطوري، سوف يكرس صوراً خيالية قديمة. اللافت في زيارة الوفد النسوي الأمريكي أنه تجنب قول كلمة واحدة عن النساء اللواتي كن يتعرض للاعتقال العشوائي من قبل جنود الاحتلال، كما تم تجاهل حقيقة أن عدداً كبيراً من النساء أصبحن رهائن في سجن أبو غريب وسجن مطار بغداد والجادرية.

في هذا الوقت وأثناء زيارة الوفد كانت هناك أرقام غير رسمية عن أكثر من 2000 معتقل في سجون الاحتلال) انظر: دراستنا (نساء أبو غريب: إعادة بناء الرواية الناقصة عن فضيحة أبو غريب في مجلة (المستقبل العربي).

تقول عضو الوفد عن ولاية فلوريدا تعليقاً على ما صرحت به زميلتها كيلي: (إنهن يدركن أن الولايات المتحدة الأمريكية تبذل قصارى جهدها لمساعدتهن في تحقيق أهدافهن). ما هي هذه الأهداف؟ تقول زميلتها ليتين من ولاية أوهايو: (في السنوات الأخيرة لم يسمح النظام لهن أن يتعلمن ويردن الآن لبناتهن مستقبلاً زاهراً).

المثير للدهشة في هذه الانطباعات أنها تكرر الصورة الأفغانية ذاتها وتعيد نسخها لتطبيقها على نساء العراق: (لقد أكدن سعادتهن بالتحاق بناتهن بالمدارس الآن).

تقول عضو آخر في الوفد تعليقاً على انطباعات زميلتها من أوهايو. وهكذا أصبح العراق في عيون نساء الكونغرس، فجأة، عراقاً أفغانياً بفضل أسطورة النساء (مقطوعات الرؤوس)؛ وغدا شهريار العراقي الذي لا رحمة في قلبه نموذجاً (عن منع الفتيات من الالتحاق بالمدارس). إنه بالفعل شهريار جديد هو في خاتمة المطاف مزيج من بن لادن والملا عمر. وبالطبع يمكن مُضاهاة هذه الأسطورة عن نساء عراقيات سعيدات بالتحاق بناتهن بالمدارس، بالصور والإشارات الأسطورية ذاتها التي بزغت مع فجر كابول الجديد، عندما طوردت طالبان وهزمت وفرت إلى تورا بورا. ها هنا أخيرا)، نساء سعيدات للغاية هنا وهناك، في بغداد كما في كابول. لا تستحق هذه الانطباعات الكاذبة التي خرج بها الوفد النسائي، حتى إلقاء نظرة نقدية عابرة لشدة سخفها وسطحيتها وابتذالها، ومع ذلك فإن إدراجها في هذا السياق قد يكون ضرورياً من أجل رؤية الأثر المدمر الذي تركته هذه الأساطير. سوف يصدق ملايين الأمريكيين والأوروبيين هذا النوع من الصناعة ويتحول العراق مرة أخرى إلى (بلد نموذجي تحرم فيه الفتيات العراقيات من الذهاب إلى المدارس)؟ بينما نعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي نبّهت العالم كلّه إلى خطورة نظام التعليم المتقدم في العراق، وإلى وجود جيش من العالمات في (الذرة) و(الجراثيم)؟

كل ما كان يهم الأمريكيين والبريطانيين من حكاية النساء هذه، ليس الجانب الواقعي المتعين والملموس؛ بل الغرائبي المشوق والرومانسي الذي يروي ظمأ المتلقي الغربي لصورة أفغانية نموذجية، نمطية وسكونية إلى النهاية. ليس ثمة ما يمكن مُضاهاته من هذه الصور بما يماثلها في الاستشراق الاستعماري الكلاسيكي، سوى الصور ذاتها للنساء العراقيات والمصريات أيام الاحتلال الفرنسي والبريطاني: حريم شرقي شبقي متلهف جماعياً للتحرر والإفلات من القيود.

الغريب أن البريطانيين أنفسهم هلّلوا في منتصف السبعينات ومطلع الثمانينات لنجاح العراق في تعليم النساء الأميات وحصوله على جائزة اليونسكو في محو الأمية؟ عبر هذه الأسطورة، استعاد الغرب الصورة المشوقة والمسلية للملك الشرقي شهريار؛ هذا المتوحش الذي يواصل دون توقف ضرب أعناق (النساء الشبقات). من منظور تقنيات السرد؛ فإن الراوي الجديد للأسطورة، يصبح طرفاً في إعادة إنشائها، في اللحظة التي يقوم فيها بإعادة تركيب الصور باستخدام طاقته ومواهبه في التخييل، ويغدو مع الوقت وتطور أشكال السرد المستقبلية مالكاً لها؛ بينما تبدو الأسطورة ذاتها من منظور آخر (تاريخي) وثقافي، كمحاولة لإعادة الشرق برمته إلى ماضيًه. إنه الماضي المشوق الذي يريد الغرب الحفاظ عليه كخزان لا ينضب للحكايات. وعند تخوم هذا العمل سوف تتبدد أوهام الحداثة و(التحرير)، وسوف تحدث مفارقة غير قابلة للتجاوز؛ فالسارد والأسطورة يسيران في اتجاهين متعاكسين. وستذهب الأسطورة إلى الماضي وهي تعيد سرد المشاهد القديمة المتخيلة لقتل النساء، فيما السارد يتجه صوب المستقبل مطوراً تقنيات السرد لتلبي أغراضه السياسية وإشاراته ورمزياته.

إن فكرة (تحرير العراقيين) سوف تترنح أمام هذا النمط من التخيل؛ لأنه أعادهم في الواقع إلى الماضي ولم يدفع بهم إلى المستقبل. وعلى الضد تماماً مما كان الأمريكيون يصرحون به؛ فقد بدت عملية (إعادة بناء أسطورة) قديمة وتركيبها في إطار جديد، كأكبر محاولة للخداع والغش. لم تكن هناك (رؤوس مقطوعة) ولم يكن هناك (جلاد) شرقي يذبح النساء. ومع ذلك واصلت النخبة الثقافية والفكرية العربية دون توقف الترويج لأساطير ما بعد الاستشراق هذه؛ بل وراحت تعمل على تطويرها ونشرها. وكما رأينا خلال سنوات الاحتلال الأمريكي للعراق (حتى الآن مضت ثلاث سنوات) فقد ساهم كتاب ومفكرون (حداثيون) عرب في إنشاء أساطير عن المرأة العراقية أين منها أساطير شهريار ألف ليلة وليلة.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7845» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة