الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 19th April,2004 العدد : 55

الأثنين 29 ,صفر 1425

انتونان ارتو
العبقرية حين تعبر على نصل الحقيقة
سالمة الموشي
غير انتونان آرتو الكثير من فهم جيل بأكمله تجاه وجودهم، وفهمهم للأشياء من حولهم، ومن داخلهم، نعم العباقرة يغيرون طريقتنا في فهم الأشياء،وحين يكون العبقري هنا هو انتونان آرتو فإن الكلمات تكبر في صمت، وتتسول مكانا للضوء لتنفذ إلى ابعد من سيرة جنون.
لم يكن آرتو من أولئك الذين حظوا ببريق الشهرة المدعية، إنما حظي بالقليل منها والكثير من الألم وانهدام العوالم من حوله، منها كما يصفه مارتن ايسلن في كتابه (جسد يختبر العالم) مترجما لحياته كما يعتقدها قائلا: إنه كان نوعا مختلفا من الشخصيات الأكثر غموضا والتي تمتلك نفوذا وتأثيرا كبيرين، انه واحد من أولئك العباقرة الذين ينشأ تأثيرهم ليس تماما مما أنجزوه وأبدعوه بشكل مادي وملموس، بل مما يمثله وجودهم وما عانوه من الآم.
لم يكن آرتو مقدسا، ولا متنبئا، ولا عبقريا بقدر ما كان (الهو الوحشي) الذي وجد ارتو انه قبالته تماما, هذا (الهو) الذي اخرج ارتو من إنسان اليومي، والهامشي، إلى ذلك الإنسان المجرد أو كما قال هو عن نفسه جسد يختبر العالم ويتقيأ الحقيقة، انه ارتو الإنسان حين يريد ان يتحرر جديا من قوانين ما تعتبره البشرية ضروريا.
تأثر انتونان آرتو بالهلينستيين، وبالثقافة اليونانية: وهي الثقافة التي أعطت لأخيلته عمقا مختلفا للربط بين رؤاه الدينين والميتافيزيقية، إذ ولد ارتو في مرسيليا عام 1896 اعتبر فيما بعد سرياليا إنما ليس له نسق فكري محدد فهو كما ظل باحثا عن الإنسان الأعلى كما هو عند زرادشت نيتشه فإذا به قبالة ارتو الذي يختبر العالم، إذا به ليس إلا ذلك الشخص الذي ولد في عصر يحتجز فيه الأفراد من هذا النوع في مصحات عقلية.
استمر ارتو يعطي ذلك الاندهاش الكبير للجيل الذي بعده، لكل من ترك لأنفسهم أن تكون رهن إرادة الكشف عن الحقيقة، والبحث عن إجابة لهمجية الإنسانية التي لا تنتهي.
يقينيات ارتو التي عرفت بالطريقة الارتوية تركت إرثا من الأفكار العارية، والمشفرة في الوقت نفسه، تركت شيئا بذاته يستحيل تجاهله، كما يستحيل في فوضى اليومي والمعاش إثبات كم يعمل فينا، وكم نسكته.
كتب ارتو قصائد لتثير أسئلة اعتقدها تعبيرا عن معاناته الهائلة، كما اعتقدها تقول للآخرين عن معنى صراع الكائن من أجل ان يبقى صامتا مدى الحياة.
احتفظت لكل هذا كتابات ارتو بذلك الحس الثوري الحاد ضد المكان، والزمان، وبلحظة الخروج من الهامش إلى المطلق برعب شساعته.
تعرف ارتو إلى الحركة السريالية كفكر، وأحبها كممارسة, فقد كان في عام 1925 رئيسا لتحرير الإصدار الثالث من دورية الثورة السريالية، شارك فيها بكتابة عدد من النصوص التي اعتبرها تعبيرا عن اهتمامه ومواكبته للفكر السريالي آنذاك.
إن أكثر مكان قد نجد فيه ارتو مكافحا ضد الانمحاء، وباحثا عن منبر للفعل هو المسرح، فقد أحب ارتو المسرح وأراد تثويره على طريقته، تاركا لقارئه سيرة حافلة، فقد كتب مجموعة مقالات عن عبقرية المسرح الألماني، وكتاب مسرح أوروبا الجديد، ومؤلفات مثل برخت خيار الشرور، ومسرح العبث.
كان ارتو يمتلك قناعة ان المسرح المكان الأكثر ملاءمة لتفجير الألم الإنساني والغضب، ودمج المسرح بالحياة.
فاحتل المسرح الجزء الأكبر من فترات حياته, لازم المسرح بطريقته وكتب عنه، وله، وقام بأدوار أحبها كثيرا في مراحل مختلفة لكنها لم تعبر عنه تماما، وليس كما أراد ان يعبر هو عن ذلك الغضب الكبير والرؤى البعيدة لديه.
كانت أول التحولات في علاقته بالمسرح عندما شاهد أداء لرقص سكان جزيرة بالي كونه يتوافق وفكرته عن وجود مسرح يحقق أفكاره في التمثيل الإيمائي او مسرح الضوء واللون والحركة السحرية، فكان تحولا له من مسرح اللوفر إلى مسرح الرقص البالينيزي، ثم مسرح الكوميدي ومن ثم وضع أساس كتابه ( المسرح وقرينه) الذي شكل مرجعا للمسرح فيما بعد.
أراد ارتو ان يكون المسرح هو ذلك السحر الذي يحرك المكان من تحت أرجل الجمهور، يهزهم، ثم يحرك طاقتهم البعيدة في فهم العالم اللامحسوس، اراد للمسرح ان ينقض على جمهور المتفرجين بكل رهبة رعب الطاعون حسب مارتن ايسلين..
الحقيقة ان انتونان ارتو لم يكن جسد يختبر العالم وحسب، اذا لا يمكن بحال الفصل بين الروح التي أفلتت من القطيع البشري الطويل والجسد الذي حملها، فانتونان ارتوا حمل بداخل هذا الجسد روحا محلقة حد التلاشي عبورا إلى نقطة اللاعودة حيث يصعب هناك تفسير العالم الذي يختبره، او تقبله .
عانى ارتو عدم القدرة على تجسيد أفكاره على الورق بشكل مقنع، واستسلم كثيرا لحالة العجز هذه، في الوقت الذي يمتلك كل قدراته الاستبصارية، معبرا عن ذلك بقوله:( ان سوء صياغة أفكاري بسبب قمعها يصيبني بالعجز والعته، واشعر بالتجوف والبله، بسبب عجز لساني عن النطق ) كان هذا احد اكبر متاعب ارتو، الامر الذي وضع فكر ارتو على مقصلة فصام الذات بين ما يستبصره، وما يعجز عن قوله...!
حد الاستنفاذ غضب ارتو، معترفا بأنه كان واعيا تماما لغضبه، وهو ما لم يكن غضبا موجها ضد البرجوازي اللامبالي الذي لا يعرف ولا يهتم بمعاناة، بل ضد كامل المنظومة الفكرية، وضد كل المناخ الثقافي الذي افرز مثل هذا الغضب.
( إنني حين تنتابني أفكار سيئة، لا اصدق أنها أفكاري، وأحاول على الفور ان اكتشف الوعي الفاسد الذي يعبث بها لتلويثي) سيطرت تحولات الغضب الشديد على روح وفكر ارتو، واتخذ غضبه ضد عجزه مسارا ممتدا من الداخل إلى الخارج، كان غاضبا إلى حدود الألم، غاضبا ضد محنة الوجود، ضد ضعف الجسد، وضد رخاوته، متسائلا إذا ما كان الشر المطلق هو في ضعف هذا الجسد، وعدم قدرته.
كان ارتو واعيا بأنه لابد وان يكون لهذا الغضب بداخله من معنى
ومن ثم أخذه مسما مجازيا ليداري به سوءة جهل العالم بالمعنى الذي أراد قوله، او شرحه للآخرين.
إلى أي حد يمكن ان يوجد الفكر دون ان يكون مصاغا على الورق، ربما إلى حد تجاهله، إنما عند ارتو فهو ليس كذلك بل إلى حد وضعه في مصح عقلي، فهل كان ارتو مجنونا حقيقيا بمعنى العته المرادف لمعنى الجنون المتعارف عليه.؟! ما معنى مجنون حقيقي؟
طرح ارتو هذا السؤال على نفسه مجيبا عن ماهية البعد العبقري للجنون على عكس ما يفهمه المجتمع ( المجنون انه بلا ريب ذلك الإنسان الذي آثر الجنون بالمعنى الذي يفهم المجتمع به هذه الكلمة على ان يكون خائنا لفكرة يقينية عن الشرف الإنساني، ولهذا حكم المجتمع على جميع أولئك الذين قرر التخلص منهم والذين اراد ان يدافع عن كيانه ضدهم)
سخر ارتو من ماهية الجنون التي تلصق بالعباقرة الذين لا يتسع لهم أفق مجتمعاتهم، مرددا: ان الأطباء النفسانيين مصممون على استئصال جميع العباقرة، قال هذا وهو مدرج على قائمة مرضى مصح عقلي فضل البقاء فيه على رؤية فوضى الخارج.
ما أكثر ما تركته شخصية ارتو من أثر عجيب عن الصورة الإنسانية بالغة التعقيد التي تقلق الفكر الإنساني لذا ما أصبح في حالاته القصوى والتي يعاد تصفيتها أو عما إذا كانت تريد قوله هذه الشخصية في عبورها على نصل الحقيقة الحادة.
اعتقد ارتوا فكرة كيانه انه إنما يحمل جميع خطايا العالم، وسبب له هذا الإحساس المعاناة والألم المفرطين.
الحكمة في الألم عند حدوده البعيدة هكذا كانت تندفع يقينيات ارتو في محاولاته ( أنا أفكر) ..ما هي العبقرية؟ وهل كانت صرخة ارتو هي صرخة فاوست يوزوني (هبني العبقرية بكل ما فيها من الألم) ؟
في طفولة ارتو كان يعرف باسم التدليل ( ناناكوي) الذي كان ينكر ان يكونه، لكنه رحل معتقدا أنه ( نانا كوي ) الذي لم يستطع الخلاص من طفولة وعي البشر، الذي منحه نيشان الجنون البحت.
لنحترس من التفكير في ان العالم قد يكون كائنا حيا، وفي أي اتجاه عليه ان ينمو.. هكذا صرخ نيتشه...
ولهذا اعتبر انتونان ارتو مجنونا.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved