الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th May,2003 العدد : 12

الأثنين 18 ,ربيع الاول 1424

الثقافة والوزارة والتطلعات!
يوسف بن عبدالرحمن الذكير

ما إن أُعلن عن وزارة تختص بالثقافة الا وتبادل معظم المثقفين التهاني، حتى وان أبى الاعلام الذي لا تعرف الدول المتقدمة له وزارة، الا ا ن يقاسم الثقافة الاسم والعنوان.. ربما غيرة منه على اخته الوليدة ليتعهدها بالرعاية والاحتضان، الى ان يشتد عودها لتقف منفردة على قدميها!! تهان قد لا تدعو للعجب، اذا ما أُضيف الى طول وتوق الانتظار، ما يعنيه منح الثقافة مرتبة الوزارة ما يستحقه المثقفون والثقافة من تقدير واعتزاز فقط، بل والاقتناع بأن الامة بعدما ازاح اجيال منها حجب الامية والجهل، وازال عن بصرها وبصيرتها، استار التكلس العقلي، ما عاد يرويها انتشار التعليم فحسب، بل وتاقت لبناء حضارتها على اساس من الثقافة المعاصرة.. فلا تقدم ولا حضارة بلا ثقافة!
ذلك لا يعني مطلقاً ان الثقافة ما كانت محط اهتمام.. فمهرجانات الجنادرية، بكل ما احتوته من فعاليات فنية وثقافية، انشأها ورعاها الحرس الوطني، والنوادي الادبية والثقافية بكل اصداراتها وندواتها التي أسستها وسقتها رعاية الشباب، ومعارض الكتب الدورية التي احتضنتها الجامعات، والمعارض الفنية لفنانين وفنانات سعوديات برعاية امراء واميرات كلها تشهد على ما شهده الحقل الثقافي من تخصيب وإنبات.. ولكن كل تلك الفعاليات والنشاطات ما كانت لترضي انين حنين الى ماضي الحضارات الإسلامية الزاهية، ولا كانت تروي ظمأ تطلعات لمواكبة حضارة انسانية معاصرة!
فالحضارة الإسلامية ما كانت لتحلق الى اعالي سماء الحضارات البشرية لتنثر وتنشر ضياء وانوار التقدم، الا بجناحي ثقافتها الدينية، والدنيوية، فمثلما زها جناح الثقافة الدينية بأسماء عظام الائمة والفقهاء، اكتسى جناح الثقافة الدنيوية، بما ملأ مجلدات وموسوعات من اسماء عظماء الفلاسفة والادباء والعلماء والفنانين.. بل والمدهش ان الفن العربي الاسلامي سبق الآخرين! فالموسيقى والغناء على سبيل المثال لم يريا النور في دمشق وبغداد ابان العصور الاموية والعباسية كالادب والعلم والفلسفة والفكر بل نبع من مكة المكرمة والمدينة المنورة ابان عصر الخلفاء الراشدين «رضي الله عنهم اجمعين» كما هو مذكور وموثق في مؤلف الكاتب المرواني الاموي الخالد ابي الفرج الاصبهاني في كتابه «الأغاني» الذي أمضى ما يقرب من خمسين عاماً في جمع وكتابة اجزائه الاربعة والعشرين، ليطور العرب الفنون وآلاته، مبدعين من امثال الموصلي وابن جامع وزرياب الذي نقله الى الاندلس، فتفرع عن آلة العود العربي، الجيتار الاوروبي، وعن الاغاني والموشحات الاندلسية، الحان فرسان «التروبادور» لتعرف اوروبا لاول مرة شدو الاغاني الغزلية المستقاة من الحضارة الإسلامية مثلما عرفت علوم وآداب وفلسفة المسلمين!.
ولكن ان كان لكل عصر ثقافته، فالثقافة المعاصرة شهدت من التطور والتشعب، بل وانبثاق وميلاد اشكال وانماط ما لا يقل نوعاً وحجماً عما شهدته كافة مناحي الحياة من تطورات، مقارنة بما كانت عليه ايام الحضارة الإسلامية الزاهرة الغابرة.. فالمعلوم التي قلبت انماط حياة البشر رأساً على عقب بما قدمته من اسباب الراحة والخدمات والابتكارات التي لم تكن لتخطر على بال بشر آنذاك، لا تكف عن التطور والتفرع والتخصص.. فهي لم تكتف بغزو الفضاء وسبر اسرار اجرام ومجرات تبعد عن كرتنا الارضية بمليارات السنين الضوئية ولا عند الانبهار باكتشاف حياة في اعماق المحيطات تعيش على فوهات براكين تصل درجات حرارتها الى مئات الدرجات المئوية، وتتغذى وتتنفس على ما تنفثه تلك الفوهات من غازات سامة، وكائنات اخرى مطمورة في اعماق الارض حيث لا ضياء ولا هواء!.. ولم يتوقف العلم عند محاربة ما كان معروفاً من امراض واوبئة اودت بحياة ملايين البشر على مر القرون، بل ونراه في حرب مستعرة مع ما يستجد من امراض ما كان لها مثيل من قبل، كنقص المناعة المكتسبة «الايدز» واخيراً الالتهاب الرئوي اللانمطي «السارس»، بل لايزال يتقدم ويتطور بزخم وتسارع لم يوسع من الفجوة ما بين الاجيال، بل وتؤثر على نمط حياة الجيل الواحد!.. يكفي كمثال ما نجم عن ثورة المعلومات في الوقت الرهن، وما قد ينجم عن اتمام رسم خريطة المورثات «الجينوم» من تطورات وتداعيات قد تنتمي الى الخيال العلمي في الوقت الحاضر تماماً مثلما انتمت بل وفاقت مبتكرات الحاضر ما كان يعد من قبيل الخيال العلمي في الماضي!.
اعمدة الثقافة الاخرى من فكر وفن وادب وفلسفة، شهدت هي الاخرى كماً هائلاً من التطور والتشعب والتوالد.. فالفلسفة المنبثقة عمن اسماه العرب المعلم الاول «ارسطو طاليس» لم تقف عند فكر المعلم الثاني «الفارابي» او الشيخ الرئيس «ابن سينا» والخالد ابن رشد، بل شهدت مدارس تنوعت من فلسفة وضعية الى عقلية، ومن انسانية الى مادية، وشهد الفكر مدارس حداثية وما بعد الحداثة، تماماً مثلما شهد من الرسم على سبيل المثال مدارس متنوعة تعددت من انطباعية وتشكيلية وتكعيبية وسريالية وما عرفت الموسيقى من الحان سمفونية وانغام غنائية واستعراضية وصولاً الى ايقاعات سريعة صاخبة، ألقت بظلالها على الاغنية العربية بصورة جلية من خلال ما يعرض على بعض شاشات الفضائيات من «فيديو كلبّات»، فالعالم اليوم قرية صغيرة، يؤثر ويتأثر كل من احيائها بالاخر بسرعة تقترب من لمح البصر!.
الادب هو الآخر لم يكن بمعزل عما شهدته مناحي الثقافة الاخرى من تغيرات وتطورات، فالشعر تفرع وتشعب الى حر وتفعيلة ونثر، والمرويات تحولت الى قصص وروايات مرت بمراحل وتطورات تنوعت من كلاسيكية الى رومانسية الى رمزية وواقعية حتى بات لكل مدرسة منها مريدون وعشاق ونقاد!
***
لم تكن تلك سوى بعض ملامح مبشرة موجودة قد تلقي من الضياء ما يكفي لايضاح ما ينتظر وزارة الثقافة من مهام جسام واحمال ثقال وخاصية اذا ما أضيف اليها ما عانته الثقافة الوطنية من عوائق وقيود، جعلت ابرز صحفنا تهاجر، واحدث فضائياتنا تستوطن وابرز ابداعات أدبائنا تسافر الى عواصم وبلدان اجنبية وعربية، لا تعاني فيها من معوقات ناجمة عن حساسيات ترتدي تارة عباءة الخصوصيات، وتتشح تارة بوشاح الثوابت والتقاليد التي يكفي لتبيان مدى هشاشتها ما تشهده الساحات الثقافية لشعوب خليجية لا تختلف عنا في الخصوصيات والعقائد والثوابت، لا تنحصر في فعاليات اقامة الحفلات الموسيقية والندوات الثقافية والفلسفية بل وما نراه على شاشات الفضائيات من فرق ممثلين وممثلات، ومسارح ومسرحيات، وفرق سمفونية يشترك فيها عازفون وعازفات خليجيات، فيما لاتزال سحب الحساسيات تحجب بظلالها القاتمة تلك المشاهد عن حلبة المسرح الثقافي الوطني!
تلك المناداة لا تعني بأي حال من الاحوال التوجه نحو انماط من الثقافة لا تخلو من انحطاط وابتذال او الخروج على القيم الاسلامية والشيم الاخلاقية العربية، بقدر ما تدعو الى المناداة لمواكبة ما تشهده المسيرة الثقافية الانسانية الهادفة، لامن خلال النشر والانفتاح على ثقافات الأمم الاخرى فحسب بل وتشجيع وانماء طاقات وابداعات محلية طال انتظارها لمن يدعمها ويرعاها!
فإن كان تأسيس وزارة للثقافة سيتخطى مجرد اجراءات شكلية تنتهي بتجميع نشاطات ثقافية متفرقة تحت سقف واحد، الى ما حدا بالمثقفين الى تبادل التهاني، فان ذلك يتطلب جهوداً ومهام لا تتصف بالتعب والمشقة فحسب وبل وتتسم بالشجاعة والجرأة! فإن كان نشر الثقافة يستدعي اتخاذ خطوات قد يكون منها:
* اقامة ندوات وحوارات ثقافية وعلمية وادبية مفتوحة للجماهير وعلى شاشات التلفاز تنتهج نهجاً معاصراً لا يشوبه الخشية من حساسيات، او التذرع بالخصوصيات بقدر ما تهدف الى تعريف الناس بما يدور من افكار وادبيات وعلوم وتقنيات لا تقتصر على فتاوى التحريم والتحليل فالعالم وبكل صراحة لن يتوقف عن التفكير والتطوير والابداع والابتكار، بل سيمضي بما شاء له الله من تقدم وتطور فيما نحن متوقفون عند ثابت وثوابت معظمها لا يخرج عن اجتهادات شخصية؟
تنشيط الحركة المسرحية السعودية الوليدة لا من خلال اقامة المسارح ودعم تكوين فرق مسرحية بكل ما تتضمنه من اختصاصات في مجالات الاخراج والتمثيل والاضاءة والديكور وما تتطلبه من نشاطات اخرى فحسب بل وباستضافة فرق مسرحية عربية واجنبية تعرض مسرحيات من التراث العربي الإسلامي كمسرحيات قيس وليلى او المتنبي واجنبية تعرض التراث المسرحي الإنساني من مؤلفات لشكسبير وموليير وجورج برناردشو بل وحتى فرق تمثيلية صينية وهندية ومن روسية وامريكا اللاتينية.
تفعيل حركة الترجمة والنشر التي بدأتها مؤسسات نشر سعودية في الآونة الاخيرة لتعريف الجمهور السعودي بالابداعات العالمية سواء ما كان منها تراثياً أم معاصراً.
تخفيف بل وازالة الضوابط الرقابية المتزمتة وخاصة عما يتم شراؤه بالبريد من المكتبات العربية والعالمية والتي عانيت منها شخصياً حينما صودرت لي من ارساليات بريدية، اربعة كتب بعضها باللغة العربية واخرى بلغة اجنبية، مما يحرم المثقفين لا من فرصة مواكبة ومتابعة ما ينشر من ادب وافكار، بل وحتى من فرصة الرد عليها!!
اما تشجيع وتحفيز المبدعين، فإضافة الى ازالة ما اعاق نشر ابداعاتهم في بلادهم من حواجز وموانع فقد يكون من اهم الحوافز تخصيص جوائز تقديرية ومادية سنوية مجزية لأفضل الاعمال والابداعات:
الادبية سواءً كان رواية أم شعراً ام قصة قصيرة أم نصاً مسرحياً او تمثيلياً.
الثقافية: سواء كان عملاً مترجماً أم بحثاً علمياً أو مقالاً ثقافياً في العلوم الانسانية.
الفنية: سواءً كانت لوحات مرسومة أم اعمالاً زخرفية أم نحتاً أو تصوير.
الموسيقية: لأفضل انجاز في مجال الموسيقى والتلحين والاداء الغنائي سواء ما كان منها تراثياً أم وطنياً أم ابداعياً.
تلك بعض من رؤى وافكار لا تخلو من عجالة وتلهف لا يخرج عما قد يختلج في صدور الكثير من التواقين الى مواكبة ثقافة العصر، لكنها لا تدّعي الاحاطة بكل ما يصبو إليه الغيورون على سمعة وتقدم وتحضر وطنهم المعطاء.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved