الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th May,2003 العدد : 12

الأثنين 18 ,ربيع الاول 1424

استقبال الغرب في النقد الأدبي «1 - 4»
د. سعد البازعي

في لقاء أجري معه قبيل وفاته، استذكر الناقد المصري لويس عوض علاقته بمشاهير الكتاب العرب في عصره ليقيم نفسه في ضوء تلك العلاقة، غير أن تقويمه جاء أيضاً بمثابة تقويم، وإن كان شديد الاقتضاب، ليس لمن أشار إليهم فحسب، وإنما أيضاً لجوانب مهمة من التاريخ الحديث لتطور الثقافة العربية، يقول عوض:
أما أنا فكنت أعاني من البلبلة بطريقة أخرى هي التناقض بين العقاد وسلامة موسى وطه حسين، فقد تواجد الثلاثة معاً وقد أحطتهم بدرجة عالية من التقدير، هكذا وجدتني حيناً رومانسياً يترجم شيلي، وحيناً عقلانياً ديكارتياً، وحيناً ثالثاً يسارياً أوروبياً من القرن الماضي.
ما يلفت النظر هنا تأرجح عوض، أو بلبلته، بين ثلاثة كتاب عرب أو ثلاثة توجهات عربية، وإنما بين ثلاثة توجهات تنتمي في حقيقة الأمر إلى غير العرب ويمثلها أولئك الكتاب. فالكتاب العرب أنفسهم ينطلقون، حسب تصنيف عوض، إما من خلفية رومانسية انجليزية «العقاد»، أو عقلانية فرنسية «طه حسين»، أو يسارية ماركسية، أوروبية «سلامة موسى»، ليلتقي الجمع عند خلفية واحدة هي الخلفية الأوروبية/ الغربية التي تجمع الرومانسي والعقلاني واليساري. إنها الصورة البارزة للثقافة العربية منذ القرن التاسع عشر، وليس عوض سوى واحد من مثقفين ونقاد كثر عاشوا البلبلة نفسها وما زالوا.
تلك البلبلة هي إلى حد كبير قصة الثقافة العربية المعاصرة في مواجهتها للمعطى الثقافي الغربي بفلسفاته وعلومه وما يتداخل بتلك الفلسفات والعلوم ويصدر عنها من تيارات ونظريات ومفاهيم وافكار، وهي ضمن ذلك قصة النقد الادبي العربي إذ ينتظم في سلك الثقافة يحمل سماتها ويعبر عن طموحاتها ويواجه مآزقها في الآن نفسه، ونحن هنا في محاولة للوقوف على هذه الجوانب، السمات إلى جانب الطموحات والمآزق، بوصف هذه كلها صورة للنقد الأدبي العربي في تطوره وسعيه لتحقيق قدر أعلى من النضج الفكري والتذوقي في تعامله مع الظاهرة الأدبية بشكل خاص والثقافية بشكل عام، غير أن بؤرة البحث والتحليل الممكنة في حيز كهذا لا تتسع لمختلف جوانب الصورة المتعلقة بالنقد الأدبي العربي الحديث، فثمة مسألة محددة تشغل هذا البحث ويمكن صياغتها في شكل أطروحة تقوم على النقاط التالية:
أولاً: ان واقع النقد العربي الحديث ليس في نهاية المطاف سوى جزء من واقع الثقافة العربية بشكل عام، وأن كثيراً مما يصدق هنا يصدق هناك.
ثانياً: ان النقد العربي الحديث حقق الكثير من الانجازات عبر علاقته الطويلة بالنقد الغربي، ولكنه أيضاً واجه من المآزق والإخفاق ما قد يفوق ما واجهه أو حققه من النجاح.
ثالثا: ان قراءة النقد العربي الحديث من الزاوية المقترحة يتضمن تأملاً في مشكلات المثاقفة مع الآخر بشكل عام، من حيث تعد تلك المثاقفة اشكالية كبرى لثقافات أخرى كثيرة في أنحاء العالم المختلفة.
العنوان الذي تحمله هذه الملاحظات يحاول اختزال الاشكالية المشار إليها، من حيث هو أيضاً يتضمن الأطروحة الأساسية، فاستقبال الآخر، أو استقبال الغرب لأنه و «الآخر» هنا يتضمن دلالتين للاستقبال، احداهما الاصطلاحية الشائعة في الدراسات النقدية المقارنة بوجه خاص، أي كيفية تلقي فكر أو أعمال أدبية أو تيار أو غير ذلك مما ينتمي إلى ثقافة ما من قبل ثقافة أخرى، كما في قولنا «استقبال شكسبير في الأدب العربي»، أي كيفية تناول شكسبير وفهمه وتوظيف أعماله أو ما أحدثته تلك الأعمال من تأثير في الأدب الذي ترجمت إليه.
أما الدلالة الأخرى التي تعبر عن جانب أكثر اشكالية، ومن ثم اثارة للاختلاف، فهي التي تشير إلى الاستقبال بالمعنى الفقهي الإسلامي، أي اتخاذ الجهة أو المكان قبلة كما في الصلاة، بما يتضمنه ذلك من تقديس أو اضفاء هالة من الاحترام والاعجاب، والمقصود هنا أن موقف كثير من النقاد العرب ازاء الثقافة الغربية لم يخرج عن ذلك الاعجاب بأوروبا الذي عبر عنه بعض الرواد في عصر النهضة ممن يعرفون أحياناً بالتنويريين مثل الطهطاوي وشبلي شميل وأحمد لطفي السيد وطه حسين وغيرهم. ولعل المثال الأقرب لذلك الاعجاب ما قاله طه حسين في تبريره للإفادة من المنهج الديكارتي في كتابه الشهير في الشعر الجاهلي حين أكد أننا كعرب «سواء رضينا أم كرهنا فلا بد لنا من أن نتأثر بهذا المنهج في بحثنا العلمي والأدبي كما تأثر به من قبلنا أهل الغرب.. ذلك أن عقليتنا قد أخذت منذ عشرات السنين تتغير وتصبح غربية، أو قل أقرب إلى الغربية منها إلى الشرقية. ثمة شعور ملح هنا ليس بحتمية الاتجاه نحو الغرب فحسب، وإنما بأن ذلك الاتجاه لا ينطوي على أي جانب إشكالي فلا داعي للقلق، مثال آخر نجده في قول عبدالله العروي أنه لكي يتجاوز العرب شتاتهم الفكري والثقافي لا بد لهم «من اللجوء إلى نظام فكري متكامل يجمع بين الأقسام المعتمدة، والماركسية هي ذلك النظام المنشود الذي يزودنا بمنطق العالم الحديث».
حتمية الاتجاه نحو الغرب هوما لا يكاد يختلف عليه أحد، وهو ما يحقق الاستقبال بالمعنى الأول، فالغرب حاضر في ثقافتنا وسيظل حاضراً لأمد قد يطول، لكن أن يكون ذلك الحضور غير مقلق هو ما ينشأ بسببه الاختلاف، ومصدر القلق ليس بالضرورة الرغبة في عدم استقبال الآخر، أو العزلة الثقافية، وإنما هو ناتج عن الاحساس بأن ما يقدمه الآخر ينطوي على جانبين:
الأول: ان استقبال الآخر كثيراً ما يتحول إلى نوع من الاستهلاك أو التهالك الذي يؤدي إلى ضمور القدرة على الابداع، نتيجة للاعتماد على جاهزية المعطى الغربي.
الثاني: أن ما يمكن استقباله من الآخر يتضمن ما يوجب الرفض وما يوجب القبول في الوقت نفسه، وأن العلاقة الثقافية لا تخلو من الاثنين معاً.
على هذا الأساس كان التوجه هنا إلى أشكلة العلاقة بالثقافة الغربية أو تأزيمها، أي ابراز جوانبها الاشكالية المتأزمة، وهو توجه معروف تنظمه العلاقات العبر ثقافية بشكل عام وطرقه وفصل فيه الكثير من الباحثين والمفكرين من عرب وغربيين ومن مناطق أخرى كثيرة من العالم، وفي مجالات كثيرة من مجالات
البحث والتفكير، وسبب إعادة الحديث حوله هو أنه ما يزال هناك من يبسط العلاقة بالمعطى الثقافي الغربي ويحتاج من ثم إلى تذكير بجوانب الاشكالية مع تفصيل يتوخى منه الاقناع، يقول كمال عبداللطيف الباحث التونسي في مجال الدراسات الاجتماعية والفلسفية، في تحليله لتاريخ المثاقفة العربية مع الغرب وما اتسمت به منذ القرن الماضي:
فمن المعروف أن زمن المثقافة الحاصلة في العالم العربي، منذ منتصف القرن الماضي، وإلى يومنا هذا، قد اتسم بطغيان الهيمنة الغربية في مختلف مجالات الوجود المجتمعي، في الاقتصاد والسياسة والتقنية، وكان لهذه المسألة أثرها القوي في المستوى الفكري، مما ولد مواقف فكرية حادة ومتقاطعة، كما ولد الانتقائية والازدواجية، وهما ملمحان بارزان في الخطاب العربي المعاصر.
في الاتجاه نفسه يقول السيد الحسيني، وهو باحث مصري في علم الاجتماع، في بحث له حول «التبعية الفكرية والاستقلال المعرفي»، إن الفكر في العالم الثالث واقع تحت هيمنة ما يعرف ب«العقل السليب» الذي هو نتاج لمؤسسات جامعية غربية الفكر، وأنماط تفكير غير نقدية، وعجز فكري عن اقامة حوار بناء مع الواقع الاجتماعي والثقافي في تلك الأقطار، وهكذا تصبح مهمة العلوم الاجتماعية في العالم الثالث، هي اعادة انتاج القيم الغربية بما في ذلك نماذج التنمية ذاتها. «ويستشهد بما توصل إليه باحثون كثر في مجالات بحثية متعددة، منهم طلال أسد،، الانثروبولوجي المعروف، ومن أن العلوم في بلاد العالم الثالث تحمل سمات تؤكد خضوعها للمقولات الاستعمارية، «ومن بين تلك الملامح الاستخدام غير النقدي للنظريات الغربية، والعجز عن تكوين رؤية مستقلة للواقع المحلي، والانبهار الشديد بنموذج العلم الغربي ومحاكاته دون إدراك عميق للخصوصيات القومية».
الخصوصيات المشار إليها هي ما أدركه نقاد ومفكرون غربيون كثر، كما نجد لدى الناقد الأمريكي المعروف ج. هلس ملر في بحث له حول النظرية في النقد الأدبي جاء ضمن كتاب يشير عنوانه إلى قضية أساسية من قضايا الاختلاف الثقافي هي «قابلية الثقافات للترجمة»، في بحثه يتناول ملر تلك القضية مع باحثين آخرين ويطرح من خلالها رؤيته بشأن قابلية النظرية للانتقال من ثقافة إلى أخرى، يقول الناقد الأمريكي: إن النظرية حين تطرح لتفسير ظاهرة أدبية معينة فإنما تطرح ضمن شروط تاريخية وثقافية محددة تجعل من الصعب نقلها كما هي: «على الرغم من أن النظرية قد تبدو موضوعية وعالمية مثل أي اختراع تقني، فإنها في حقيقة الأمر تنمو في مكان وزمان وثقافة ولغة محددة، وتبقى مربوطة إلى ذلك المكان واللغة»، هذه الخصوصية ذات الجذور الثلاثة في المكان والزمان والثقافة لا تؤدي إلى جعل النظرية غير قابلة للانتقال أو منغلقة على بيئة واحدة، وإنما، كما يقول ملر، تجعل عملية نقلها صعبة من ناحية، ومؤدية بالضرورة إلى تغييرات تصيبها هي من ناحية فلا تعود كما كانت، وتصيب الثقافة التي تنتقل إليها، من ناحية أخرى، بتغييرات يمكن ملاحظتها.
اللافت للأمر هو أن الناقد الأمريكي لا يقيد مجال انطباق نظريته ضمن ثقافات متباعدة، كما هو المتوقع، وإنما يشير إلى ثقافات تعد شديدة التقارب مثل الثقافتين الفرنسية والأمريكية اللتين تشتركان في جذور واحدة وتنتظمهما روابط ثقافية متجانسة إلى حد كبير.
فهو يضرب مثالاً توضيحياً من نفسه هو حين تبنى، في فترتين متباعدتين من نشاطه النقدي، منهجين نقديين مختلفين كل الاختلاف، هما الظاهراتي «الفينومينولوجي» والتقويضي «التفكيكي» اللذين طورهما، على التوالي حسب ملر، الفرنسيان جورج يوليه وجاك ديريد. «مع أنني قرأت بوليه وديريدا بلغتهما الأصلية»، يقول ملر، «فإنني ترجمتهما» إلى طريقتي في التعبير، وبذلك جعلتهما مفيدين لعملي سواء التدريسي أو التأليفي حول الأدب الانجليزي ضمن سياقي الخاص في جامعة أمريكية، وهذا السياق شديد الاختلاف عن السياقين الفكريين الأوروبيين اللذين كتب بوليه وديريدا من خلالهما» لكن إذا كان كل هذا الاختلاف موجوداً بين ما هو أوروبي وما هو أمريكي، بين سياقين شديدي التجانس، فكيف بالاختلاف بين ثقافتين متغايرتين في أمور جذرية، كما هو الحال بين ثقافتين احداهما من الشرق والأخرى من الغرب؟ في المقالة القادمة سنقرأ موقف بعض الباحثين من الثقافات الشرقية تجاه هذا الاختلاف.


albazei53@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved