الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th May,2003 العدد : 12

الأثنين 18 ,ربيع الاول 1424

نص مترجم
«حلم طروادة»
ترجمها عن الألمانية: عباس المدهش

في ليلة عيد الميلاد المتشحة بالبرودة الشتوية من عام 1830 وعبر قطع الثلج المنخفضة كان السيد شليمان الأب وزوجته وخمسة من ابنائه الكبار عائدين الى منزلهم المتواضع والمغطى بالقش في الريف الالماني وبعد الوصول كانوا ينتظرون من الاب هدايا عيد الميلاد وباعتقادهم لن تكون هناك الكثير من الهدايا لأن والدهم بطبيعة الحال فقير، وليس من السهل عليه اطعام سبعة اطفال حينئذ فكر ابنه الصغير «هاينريش» قائلا لنفسه هل يا ترى سأحصل على كتاب، وبما ان عمره لم يتجاوز الثماني سنوات الا انه كان شغوفا بالقراءة ويرغب بالاطلاع على الكتب فقط وعلى الجانب الآخر يصر الباب من غرفة عيد الميلاد ويشاهد هاينريش من خارج الباب كتاباً سميكاً قد وضع في مقعده وبقفزة واحدة انقض على الكتاب متسائلا ما اسمه انه «تاريخ العالم للأطفال» تصفحه بشوق وبسعادة غامرة، وتأمل صوره الملونة الكثيرة نعم «يا هاينريش» قالها والده واضعا يده على رأسه سوف اهديك هذا الكتاب لكيلا تكثر علي الاسئلة عن كيف جرت الامور سابقا في العالم عندها فتح الاب الكتاب ليتحدث لابنه عن كيفية ابحار اليونان الى آسيا الصغرى وحاربوا طوال عشر سنوات هناك لحصار طروادة وكيف تمكنوا ان يستولوا عليها اخيرا بالحيلة قلما سمع «هاينريش» ما كان يقوله والده لان القراءة بالنسبة له افضل من الاستماع لذلك زحف سريعا الى تحت شجرة التنوب، وجلس على الجانب الآخر منها بينها وبين الجدار حيث لا يزعجه احد مضت الساعات، توجه إخوته الى غرفة النوم منذ وقت بعيد. نهض السيد شليمان وأطفأ شموع شجرة عيد الميلاد سمع فجأة شهقة عميقة ونادى زوجته ما هذا يا لوزي الصبي يجلس خلف الشجرة منهمكا بالقراءة خرج هاينريش زاحفا من تحت الشجرة قائلا انظر هذه الصورة يا ابي انت اخبرتني ان الاغريق قد حطموا مدينة طروادة بحيث لم يبقوا فيها حجرا على حجر هذا غير صحيح الرجل الذي الف هذا الكتاب لابد وانه قد شاهد طروادة ولو مرة واحدة، والا لما استطاع تصويرها هنا ضحك الاب ثم قال هذه صورة متخيلة هذا ما تخيله الرسام يا بني، فكر الصبي لحظة ثم سأل هل كان لمدينة طروادة أسوار حقيقية سميكة وابراج عالية كما في الصورة رد الاب هذا ممكن،، ثم تابع ابن الثمانية اعوام وهو واثق من نفسه اذا كانت مثل هذه الاسوار وجدت هنا مرة لا يمكن ان تكون قد دمرت بالكامل قاطعه الاب بالكلام كيف استطيع ان اؤكد لك ذلك يا بني لذا نهض «هاينريش» قابضا الكتاب بقوة وصادحا بقراره المفاجىء لوالده «عندما اكبر يا ابي سوف أنقب وأكتشف طروادة» ضحك الاب ضحكة مجلجلة عندما شاهد ابنه والبريق يملأ عينيه وهو واثق من نفسه قال بهدوء «فالتنقيب عن طروادة يا هاينريش مستقبلا» هذا هدف نبيل للحياة جمعا وتساءل الاب الحياة صعبة حتى على الاولاد، وهذا ما لاحظته على ابني هاينريش عندما فقد اعز واغلى ما يملك في الحياة الا وهي امه وعندما فقدت وظيفتي لاحقا ايضا. انتظم هاينريش في المدرسة الثانوية وهو ذو احد عشر ربيعا وذلك كي يصبح عالما فيما بعد ويحقق هدفه في اكتشاف طروادة وبما ان الاب فقير فلم يستطع دفع رسوم الدراسة المكلفة ترك الابن الدراسة الثانوية وبعد ثلاثة اعوام صار يعمل بائعا في دكان صغير يكنس المحل ويزن الدقيق والملح والسمك المخلل ويبيع البطاطس عمل بائعا مدة خمسة اعوام وغالبا ما كان يبكي عندما يفكر بحلم طفولته وفجأة تحولت آلامه الى قوة كبرى متوشحة بالعزيمة والارادة وفي قرارة نفسه يؤكد «اريد ان اصل الى هدف حياتي» اريد ان اصل لهدف حياتي.
هاينريش ذو التاسعة عشرة انتقل الى مدينة «رستوك» ثم الى مدينة «هامبرج» والطريق المستقيم المؤدي الى طروادة من خلال الدراسة والتحصيل العلمي كان مغلقاً ويجب عليه ان يصل الى هناك عبر طريق التوائي يجب ان يكسب الكثير من المال في وظيفته التي تعلمها بحيث يعوض ما لم يستطع ان يتعلمه حتى الآن ولكن في مدينتي روستك وهامبرج النقود لن تكون ملقاة في الشارع لذا انتقل الى امستردام الهولندية وهناك وجد وظيفة متواضعة عبارة عن محاسب حينها قال لنفسه يجب على المرء ان يتمسك بالحظ ولن يستطيع ذلك الا من خلال عمل خاص به وعبر الجهد والاجتهاد الدؤوب راح يتعلم ويتعلم وقبل كل شيء عليه ان يتعلم اللغات لانها الاهم بالنسبة لتاجر طموح فبدأ بالهولندية الاسهل لكونها من ذات العائلة الجرمانية ثم جاء دور اللغة الانجليزية ولكنه لا يستطيع ان يتعلم كما يتعلم الناس الآخرون لغة اجنبية، ومن غير الممكن ان يجلس ويأخذ دروساً قد تمتد محاضراتها من ثلاث الى اربع ساعات اسبوعيا وربما تمتد تلك الدروس لسنوات، قلة الصبر لديه لا تسمح له بذلك، وهذا ما دفعه للامام كي يبتكر طريقة خاصة به الا وهي القراءة بصوت مرتفع، انتقاء مقالات مختارة مستوفية القواعد اللغوية حول مواضيع شيقة ومثيرة ويحفظها عن ظهر قلب وحتى عندما كان يسير عبر الشوارع فكتابه لا ينفك من امام انفه ويستمع لما حفظه عن ظهر قلب بصوت منخفض وعندما كان ينتظر البريد في صالات الانتظار او مراجعة البنوك كان يحفظ باستمرار وبعد اقل من نصف سنة اجاد الانجليزية كما هي له بالنسبة للالمانية ثم بدأ بالفرنسية وعندما راح يتعلم الايطالية، الاسبانية، البرتغالية بنفس الطريقة المعهودة كان يحتاج الى ستة اسابيع فقط حتى يجيد اللغة وفي نهاية حياته تعلم احدى وعشرون لغة، وبما انه تعلم الروسية ايضا فقد ارسله رؤساؤه وهو ابن اربعة وعشرين ربيعا كممثل تجاري لهم في مدينة سانت بطرسبرج وبعد وقت قصير اصبح تاجرا هناك بالجملة مستقلاً بذاته وحصل على ارباح ضخمة من المال وبالكاد استمرت ثمانية عشر سنة حتى اصبح «هاينريش شليمان» من اصحاب الملايين الثراء بالنسبة له كان شرطا اساسيا اول لتحقيق طموحه وخططه لكن ذلك لا يسير بسرعة كافية في البداية يجب على التاجر الناجح ابن الثانية والاربعين عاما ان يجلس بصفته ضيفا متواضعا بين الطلاب في جامعة باريس كي يتعلم ما تتطلبه المهنة الجديدة اخيرا جاء دور اليوم الاكبر الذي سافر فيه من مدينة القسطنطينية الى مضائق الدردنيل وعندما وصل الى هناك استأجر الخيول ومرشد كي يدله على معالم البلاد وطبيعة اهلها وارتحل بالخيول الى طروادة ولكن اين توجد طروادة يا ترى؟ المكان الذي يحمل هذا الاسم اندثر ولا يوجد منذ آلاف السنين وحسب اعتقاد العلماء انها نشأت هناك حيث تقع حاليا قرية تركية صغيرة، القرية قذرة ومتسخة وتفتقر للنظافة لدرجة انه كان يبات في العراء ليلا، ولا يأكل سوى كسيرات من الخبز والشعير ولا يشرب سوى من ماء نهر سكمندر هذا الماء الذي شرب منه الأبطال الطرواديون في اعتقاده ساعات واياماً طويلة خطوة خطوة وهو ينحني على الارض وكل كتلة تراب يتفحصها بعيون حادة وراح يزحف شليمان عبر التلة التي تقع فوقها القرية ولم يجد حجراً منحوتاً ولا حتى شظية اثرية ثم استأجر خمسة من العمال مجهزين بالقفف والفؤوس والمجارف، وما يلزم ذلك من ادوات ولكن وبالرغم من الثلاثين حفرة التي تم حفرها من قبل العمال في الاعماق لم يجد ذلك شيئا، اتضح لاحقا ان العلماء لابد وانهم اخطأوا في تقدير موقع طروادة واصر ان طروادة لم تقم ابدا في هذا المكان وفي احدى تنزهاته على ظهر الخيل عبر السهل لفت انتباهه تل منذ اليوم الاول وتمعن فيه شليمان وسأل من حوله ما اسم هذا التل؟! فأجابه هذا قصر يا سيدي لذا ابتدأ شليمان الحفر في قمة الهضبة وكانت قمة التل تتراوح طولها حوالي 230 مترا وايضا عرضها موازيا لنفس القمة وتنتشر الاحجار والشظايا في كل الارجاء بكميات كبيرة وعندما غاب قرص الشمس في فضة البحر يذوب استلقى الباحث هاينريش شليمان متعبا تحت شجرة وبينما هو منهمك في تعبه تساءل لابد وان مدينة طروادة الحقيقية قد نشأت هنا فالجبل عبارة عن كومة من الانقاض والاطلال التاريخية لابد وان الاغريق والرومان قد بنوا مدنهم فوق انقاض مدينة طروادة لاحقا وقرر ازاحة الانقاض حتى يتسنى له ان يجد خرائب طروادة متى يستطيع البدء بالعمل الذي تجذر في فكره منذ ان كان ابن ثمانية اعوام تحت شجرة التنوب.
مشروع كهذا يجب عليه ان يعد العدة له جيدا بداية لابد ان يأخذ موافقة الحكومة التركية ومن هنا بدأت المنغصات والارهاصات الحقيقية من الوزراء والموظفين الاتراك الذين يضعون كل الصعوبات في وجه الغريب، ومما زاد الامور تعقيدا هو وصف شليمان من قبل الاساتذة في انحاء العالم بأنه مجنون عندما وصف في احدى كتبه انه وجد مدينة طروادة التاريخية ولكنه لم يكترث لتلك الارهاصات والاقاويل بل عاود الكرة مرة اخرى وكله صبراً كي يتغلب على جميع العوائق والصعوبات التي وقفت امامه وعاد بعزيمة قوية الى سهل طروادة كي يبدأ العمل من جديد. حاصر الاغريق طروادة لمدة عشرة اعوام والآن تتمنع طروادة نفسها سنة كاملة ضد الرجل الذي اراد قهرها من جديد ليس فقط البشر وقفوا ضده بل الطبيعة ايضا ولكن شليمان وزوجته الشابة التي رافقته في الرحلة كانت ارادتهما اكبر من ان تعبث بها العواصف او الاقاويل وفي عام 1870 بدأ العمل وبعد ثلاثة اعوام ابتلع منهما الكثير من النقود لقد تم قرض الجبل من جميع الانحاء والجوانب وفي نواح متعددة ازيح من خمسة عشر عشرين مترا حينها وجد شليمان احدى بوابات المدينة، احد شوارعها الفخمة وقصور وبقايا اسوار المدينة الضخمة بابراجها المدهشة والمثبتة بعناية فائقة وحس هندسي رائع وفي 15 يونيو من صيف عام 1873 اراد شليمان انهاء التنقيبات اعتقادا منه انه وصل الى هدفه وكشف النقاب عن الجزء الكبير من مدينة طروادة الا انه تراجع لانه ما تزال البراهين الدامغة تنقصه وذات مرة تأمل شليمان اسوار المدينة عما اذا كانت ستمنحه سرها وفي تلك الاثناء انهارت امامه كتلة ترابية من الجدار التي وبفضل سطوع اشعة الشمس عليها جعلت ما بخلفها يلمع واذا هو ذهب خالص قبض شليمان على ذراع زوجته وهمس بصوت مبحوح معتقدا انه يوجد هناك كنز مطمور، اظهر الفحص الاول انه لن يكون سهلا ان يستخرج هذه الاشياء وهي تندس في داخل طبقة صلبة كالصخر في واحد ونصف متر وفوقها مباشرة يقف سوراً سمكه متران وارتفاعه ستة امتار اذا حفر المرء في الطبقة السفلى بعمق قليل واذا فصل قطعة بلا حرص، فمن الممكن ان ينهار الجدار بكامله وان يردم الكنز والمنقبين معا وبدأ شليمان بازاحة الصلب بسكين من الموقع الظاهر خارجيا ملمتراً ملمتراً الدقائق تمتد الى ساعات ويجب هنا على المتسرع ان يكون صبورا والمستعجل ان يكون متريثا واخيرا امكنه فك اول قطعة من الجدار وهي عبارة عن ترس بشكل بيضاوي بطول نصف متر كالذي كان يحمله محاربو حرب طروادة وكانت زوجته صوفي تغلف كل قطعة حالما يتم استخراجها بمنديل وتحملها للكوخ وعندما صار لديهم كل شيء في وقت متأخر من الليل راحوا يتأملون الادوات المصنوعة من النحاس والفضة الواحدة تلو الاخرى سيوف، رماح، خناجر، اوانٍ نحاسية، قوارير، ويصل وزنها احيانا الى رطل كؤوس ذهبية مطلية بالذهب يزن احداها 600 جرام وهو مصنوع على شكل سفينة واشياء اخرى وعندما ارادوا ان يتفحصوا مزهرية فضية من بين الاشياء سمعوا بداخلها خشخشة وبسرعة افرغت صوفي احدى الطاولات ووضعت منديلها الاحمر على الطاولة كغطاء وافرغت محتوى المزهرية فوقه واذا بداخلها خواتم، ازرار، وحلي صغيرة، سلاسل على الجبين، اقراط طويلة، اساور عريضة، كلها من الذهب قال: شليمان بصوت مرتجف هذا هو كنز الملك برياموس والآن لا يستطيع احد ان يعارضني في اكتشافي مدينة طروادة التاريخية والحقيقية وبالتالي فإني حققت حلم طفولتي وحياتي واليوم نعرف ان شليمان كان على حق او لم يكن على حق المهم شيء آخر تماما.
صحيح انه اكتشف ونقب عن طروادة التاريخ والحضارة ولكن الكنز لا يخص برياموس بل كان موغلاً في القدم المهم ان شليمان حقق حلم صباه واكتشف الالف سنة من التاريخ الاغريقي وفتحه بذلك للعالم قاطبة. ما دعاني لترجمة هذه القصة المدهشة هو انها من الواقع وليست من حكايات الخيال او اساطير الشعوب، فشليمان لا يؤمن بكلمة المستحيل التي هي غير موجودة في قواميس التاريخ اذا ما تحررت ارادة الشخص من اليأس والقنوط وهذا ما تم له بالفعل في اكتشاف طروادة التي دلف مثلها «حصان طروادة» لكل مجالات الحياة.
ختاما فإن الاعاقة الحقيقية في الانسان ليست في الجسد بل في التواكل وخمول العزيمة التي ما ان نخرت مجتمعا الا وحكم على اهله بميتة الاحياء اذا فلا مستحيل عند الانسان، ولذا ينبغي الاهتمام بطموح الشباب وان ننميها بالمفيد وبطرق علمية ممنهجة لان شباب اليوم هم عماد الغد وقياس الامم بشبابها لا بكهولها ومن قصة الالماني هاينريش شليمان هذه نستخلص العبر والفوائد.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved