الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 19th June,2006 العدد : 158

الأثنين 23 ,جمادى الاولى 1427

البجعة التي ملت مطاردة القمر
فوزية العيوني
ما زالت المرأة السعودية تعاني معاناة خاصة - لحظة الكتابة - لا سيما الإبداعية منها، قد لا يستطيع الرجل استشفافها، وذلك نتيجة لخطوط المجتمع الحمراء العريضة. وللرقيب الضخم الذي كونه الإرث الثقافي في لا وعي المرأة من ناحية، وفيما يختزنه وعي الرجل وثقافته من رؤية تقليدية للمرأة من أخرى، مما يكبل طموح المرأة واندفاعها في مجرى الإيداع. ورغم اتساع هامش الحرية الصغير في المجتمع الآن، كنتاج طبيعي لتطوره بفضل المتغيرات الجديدة، الداخلية والخارجية، والانفتاح الالكتروني الهائل على كل بقاع العالم، إلا أن المشكلة الأزلية ما زالت قيد الفاعلية.
لقد ساهمت الفضاءات الضيقة على مساحة الصدور المكتظة بهم الكتابة الحرة عندنا، في فقدان ساحتنا الأدبية، العديد من الأسماء النسائية الواعدة، في كل مرحلة من مراحل نهضة المرأة. إلا أنني أرى الأمر يبدو مختلفاً جداً مع الكاتبة (سارة بوحيمد)، التي ما أن بدأنا أنا وجيلي في منتصف السبعينات ولوج عتبات صاحبة الجلالة، حتى رأينا الصحافة تتساءل عن هذا الاسم اللامع الذي هرول خارجها.
ما أكاد أوقن به، أن سارة - ورغم الوضع البائس للمرأة وقت شروعها في الكتابة - لم تكن تعوقها الخطوط الحمر، لأنها لم تتجاوزها اصلاً، بقدر ما كان يؤرقها ويعوقها وضع المرأة آن ذاك، ولذا فإن سارة تركت الساحة بمحض إرادتها.
تذكرنا سارة بملك حفني ناصف 1886-1918م (الغنية عن التعريف) إذ ثمة التقاء وتقاطع في سيرتيهما الاجتماعية، وفي توجههما الفكري،- مع فارق أثر الحراك الاجتماعي والسياسي في البلدين، فسارة وملك، كلتاهما تنتميان الى الطبقة الوسطى، وكلتاهما نشأتا قي بيوت علم ومعرفة، وكلتاهما حاولتا أن تأخذا بسبب التقدم المأخوذ من الغرب دون فقد للهوية أو تخل عن التراث، وللخلفية الثقافية للاثنتين، فملك والدها من تلامذة جمال الدين الأفغاني، وهي من المعاصرات لقاسم أمين ومحمد عبده، لذا فقد نهلت من مشارب نهضوية متعددة، أما سارة فهي ابنة سليمان بوحيمد، الملقب بشيخ تجار البحرين، بعد أن هاجر من نجد إلى هناك، وهي أخت الشاعر ناصر بوحيمد، الرجل المستنير في عصره، الذي لم يرض على أخته التي نالت الابتدائية وسنتين من المرحلة المتوسطة في البحرين، أن تظل بلا تعليم، عندما عادت الأسرة للعيش في الرياض، ولم تكن مدارس البنات قد افتتحت بعد، فانتقل معها إلى بيروت لتلقي كل مراحل تعليمها هناك.
سارة النجدية حساوية الأم، بحرينية التعليم، بيروتية الوعي والثقافة، امتشقت القلم في وقت مبكر جداً (نهاية الخمسينيات)، وهي في الثالثة عشر من عمرها، بكل شجاعة وكتبت باسمها الصريح، في الوقت الذي لم يكن فيه تعليم المرأة سوى فكرة شيطانية لم تر لها قبولاً اجتماعياً بعد، ولم يكن يشكل العلم هاجساً للمرأة التي تحفظ واجباتها جيداً دون أن تعي أية أبجدية لحقوقها ،بل في مرحلة كان فيها من العيب ظهور اسم المرأة حتى بعد ذلك بسنوات طويلة (وربما إلى الآن في بعض مناطق الوطن) والمطلع على أرشيف (أبويعرب) من عدد اليمامة 308 في 14 يناير 1962م ،سيجد مقالة سارة في ركن الأمهات، باسمها الصريح، وفي زاوية صغيرة تحمل (خبر الركن) من نفس الصفحة، سيجد الخبر التالي: (أنهت الآنسة الإدارية دورتها التفتيشية للنصف الأول من العام الدراسي وسوف تقدم تقريرها للرئاسة العامة خلال أسبوع هكذا دون اسم هذه الآنسة).
في هذا الوقت الذي لم يتخلق فيه وعي الرجل بعد إلا عند الندرة، تخرج فيه امرأة مهمومة بوضع المرأة في البلاد، في حين الجهل والتخلف والتهميش للمرأة هي المظاهر السائدة آنذاك. فاتخذت أظنها منفردة دور الرائدة الاجتماعية التوعوية، المتفوقة على المرحلة، ولكي توصل رسالتها التي تحرق جنباتها، وجدت في الشخصيات النسائية العربية وغيرها، وسيلة معقولة لتمرير الرسالة، فأبرزت وطرحت وتناولت وعرفت عبر العديد من المقالات، بالعديد من الشخصيات النسائية الفاعلة في المجتمعات العربية المجاورة أمثال: مي زيادة، وبنت الشاطئ، سهير القلماوي، وسميرة عزام، ولم تهمل جميلة بوحريد، البطلة الجزائرية، التي خصتها بمقال طرحت عبره شخصية المرأة المناضلة (التي رأت خيرات بلادها تنهب من قبل الفرنسيين) وختمت المقال بقولها: (تحياتنا من كل ارض عربية للبطلة ذات النفس الأبية) صحيفة القصيم 27 فبراير 1962م.
في عام 1962م كتبت سارة في اليمامة، معرفة بمي زيادة (مي تلك التي قامت شهرتها على شجاعتها، في أن تشارك في بحث المواضيع المختلفة، من فلسفة وإصلاح، واجتماع، في وقت كانت التقاليد تحول دون مشاركة المرأة في هذا اللون من النشاط).
ثمنت سارة دور مي كونها امرأة مختلفة، خرجت عن نمط النساء السائد في عصرها. أما سارة المختلفة أيضاً، فكان عليها أن تنتظر ظهور رجل شهم مثل
(أبو يعرب) ليقول للأجيال لقد كانت لكم (ميكم) المنسية كما عرفت سارة بنساء خارج الوطن العربي، مثل ماري كوري، والسيدة فيجايا لا كشيحي دبلوماسية الهند الأولى، كل هذا في محاولة منها للفت المرأة في الوطن لأمثال تلك الشخصيات، مؤكدة أن دور المرأة لا ينحصر في المطبخ وتربية الأطفال كما جاء في مقالها المفصل حول (دور المرأة في خدمة المجتمع).
عكاظ العدد 90 14فبراير1962م كتبت سارة قصصاً قصيرة من أهمها في رأيي (الحصان الجريح) التي نشرت في مجلة الحرس الوطني العدد39 يناير 1996م لعله آخر كتاباتها، لا أدري...؟ ولكن؛ وبالرغم من الأسلوب القصصي النمطي التقليدي في السرد، إلا أن المرأة تظهر فيه بوعي واضح، ترفض مثلاً أن ترغم على (زيجة) معينة لا ترضاها هي، في حين يصر الأهل عليها، والجميل في هذا النص، ذلك الحصان المدلل الذي يظهر كمواز للمرأة في القصة، وكلاهما سيتعرض لجرح، فالحصان جرح جرحاً بالغاً تتألم له الصديقة حتى البكاء والمرأة تئن أنين الحصان المجروح لكن لا أحد يسمعها..
في ذلك الوقت المبكر، كانت سارة تتبدى كامرأة طموحة، منتمية للمرأة في وطنها، لعلها كانت تبحث عن رفيقات يشاركنها نفس الوعي والطموح، فطالبت في مقالات عديدة، بالمساهمة في النهوض بنساء الوطن من ظلام الجهل إلى نور العلم والمعرفة، ونادت بافتتاح الجمعيات الخيرية، شرط ألا يقتصر دورها على ناحية واحدة من نواحي الخير، بل تشمل جميع الأمور التي تكون المرأة بحاجة إليها، فتفتح المراكز في جميع المدن والقرى لرعاية الأمومة والطفولة، ومشاغل للنساء المعوزات، لمساعدتهن في تدبير أمور عيشهن بالوسائل الشريفة، وملاجئ لليتيمات والعجزة، ومدارس محو الأمية (اليمامة العدد300 الأحد 19 نوفمبر1961م سارة حلمت مبكراً...، وكنا نظننا - نحن أول الأجيال المتعلمة من داخل الوطن - صاحبات حق اختراع هذا الحلم، وإذ بنا نجد أن لأحلامنا جذوراً، ليكبر سؤال سارة بل وجعها، لماذا هذه الأحلام لا تواكبنا؟ لماذا تأتي مبكرة وتخذلنا؟ أو نأتيها متأخرات فتحرجنا، أما ملك (الغنية عن التعريف)، فقد كانت من النساء المناصرات لقضية المرأة ولكنها جاءت وفي الشارع المصري إرث لهذا المفهوم، فقد سبقتها عائشة التيمورية، ومي زيادة، نبوية مصطفى، ولبيبة هاشم ،وان كان توجه هذه المجموعة أدبياً في المقام الأول، ورغم كتابة ملك للقصيدة والمقالة، إلا أن اتجاهها كان منصباً على المطالبة بالحقوق الاجتماعية للمرأة حتى في الأدبي من نتاجها؟ كما تتقاطع السيرتان في نهاية المطاف عند اعتزال الكتابة، تقول ملك: (كنت قد اعتزلت الكتابة لا لنضوب مادته عندي ولكنني كنت مللت المناداة بإصلاح المرأة المصرية، وثبط عزمي ما أراه من انصراف فئة من المتعلمين والمتعلمات الجدد عن العمل لتكوين القومية المصرية الجديدة، وما حركتهم التي ملأوا بها القطر صراخاً إلا عنوان نهضة كاذبة). أما سارة فانصرفت عن الكتابة لنفس السبب بعدما أدركت أنها تكتب لنفسها وألا جدوى من صراخها.
وأخيراً تلتقي الاثنتان ايضاً في خاتمة عجيبة: ففي حين الحديث عن عصر النهضة تغيب ملك تماماً ويتم التجاهل الواضح لدورها وانجازاتها ولا تدرج ضمن رواد النهضة. وكذلك سارة لم تصنف يوماً على أنها من أوليات كاتبات المقالة، ولا أوليات المعنيات بقضية المرأة ،ولا أوليات كاتبات قصيدة النثر، أو التفعيلة، بشكلهما البسيط آنذاك، مقارنة بما وصل إليه هذا الشكل الأدبي من تميز الآن.
ملت سارة الصراخ في بيداء مهجورة دون مجيب وبدأت تشعر باليأس والضياع بعد أن فقدت الأمل، كما قالت لي، وكما تجلى ذلك في نصوصها الشعرية فيما بعد. ولذا فهي حقاً كالبجعة التي ملت اصطياد القمر، في نصها المعنون ب(سأم) وسنجد في قصائدها التالية ما يعبر عن حالها:
يائسة
تحطم حلمي
فتحطمت حياتي معه
وتساءلت نفسي في لوعة لأي شيء أعيش
(الأديب ابريل 65م)
ضياع
سفينتي تمخر العباب
بلا شراع
الريح تطويها ويخفيها الضباب
وصدى يردد بلا انقطاع
ضياع ضباع
ضياع
(الأديب سبتمبر 61م)
سأم
البجعات البيضاء تسبح في فتور
لقد ملت المياه الزرقاء
وانعكاس النور
عندما يحل المساء
ويتوسط القمر كبد السماء
الى
فيهتفن في يأس
إنه مجرد بقعة من نور
تمر الليالي على البحيرة
وتمل البجعات
مطاردة القمر ومحاولة ابتلاعه
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved