الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 19th June,2006 العدد : 158

الأثنين 23 ,جمادى الاولى 1427

شاعرة مرهفة النفس
سعد البواردي

شاعرة إبداعية قالت شعراً وصمتت دهراً كما هي الحال بالنسبة لشقيقها الإبداعي ناصر أبو حيمد.. اختفيا فجأة عن الأنظار.. غيابهما عن الساحة الشعرية أعيا المنظار في متابعته لذلك اللغز المحير الذي باعد بينهما.. وبين فضول الكثيرين وتساؤلاتهم.. لماذا الغياب؟! ولماذا الاحتجاب في زمن لا يسمح للمواهب بالترجل عن جوادها؟!
لعل لها، وله عذر ونحن نلومهما..
القليل من عطائها الشعري هو ما أمكن الوصول إليه.. والحصول عليه.. وهو في كمه القليل، وفي كيفه الكثير.. وهذا هو المهم..
شاعرتنا مرهفة الحس.. ومرهفة النفس.. في شعرها عذوبة مشاعر.. وعذابات أحاسيس تتقاطع أنفاسها بين فرح وجرح.. وبين ألم وأمل.. كما هي الحياة.. وكما يجب رسم صورتها دون إقصاء لأحد جوانبها..
الواقعية في رسم الصورة تعني إبداعية الصورة دون طلاء.. ولا تدخل قسريا يلوي عنق الحقيقة ويباعد بين الأصل والظل.. وبين الإطار والمضمون.. وبين الحركة والسكون.. وبين الرغبة والرهبة..
تطغى على شعرها روح التمرد والمواجهة في وجه الضعف والاستكانة بحثاً عن إشراقة حياة الحرية عنوانها.. واليقظة ديدنها.. من مرارة ألمها تتجرع كأس أمل.. ومن مرارة دوائها تواجه داءها كي تخلد سكينة النفس وطموحات الحس.
شعرها مرسل حر.. تحرر من قيد التفعيلة الكلاسيكية.. أعطته نثراً فنياً معبراً عن ما يدور في دواخلها من خلجات.. صاغته.. ورسمته بريشة حداثية لا تخطئ خطوطها العين.. يكفيها أن نبرتها لا وهن ولا هوان فيها.. بداية مع مقطوعتها.. سأم.. حيث تقول:
البجعات البيضاء تسبح في فتور
لقد ملت المياه الزرقاء.. وانعكاس النور
على صفحات البحيرة عندما يحل المساء..
ويتوسط القمر كبد السماء
ماذا.. ولماذا هذا السأم؟ المياه الزرقاء صافية كون السماء لا تدعو.. ولا تدفع السأم كما هي الحال بالنسبة للمجاري الملوثة والراكدة.. حتى ضوء القمر الذي تعكسه صفحة الماء عند المساء.. إنه يغازلها وتحاول ابتلاعه ظمأ إلى نوره لا تملك إلا المطاردة التي لا تشفي غليلاً لظامئ..
حسنا يا شاعرتنا أبقي لنفسك نافذة أمل.. الحياة دون أمل يأس قاتل لا بد من إيقاظ شمعة وسط العتمة كي تضيء الدرب كما قال (كونفشيوس) فيلسوف الصين العظيم.
ومن (سأم) إلى (حيرة) والحيرة إحساس بضبابية الرؤية تتجاوز في أبعادها عذابات السأم.
مضت شهور.. وشهور..
ونحن كما نحن.. في دوامة الحيرة ندور..
القلق يعصف بنا
ومن أعيننا تطل نظرة ظلم.. وجور..
- شكوى معاناة.. وشكوى مشقة درب.. وشكوى ضياع دليل.. وشكوى غياب مرفأ.. حتى الدرب التي شاءت اجتيازه نحو الهدف يدور حول نفسه في حلقة مفرغة لا أرضا قطع ولا جبلا أبقى.. عدمية صارخة في يأسها تسربل عمرا ضاق بوجوده بعد أن ضاقت به أيامه وأعوامه لأنه يدور.. ويدور.
مللنا الوجود..
وشقاء الوجود
وفي الشهور ونحن ندور..
الحياة رحلة يقينها أن لا تنهزم الإرادة.. أن لا يغالبنا القنوط فنذوب في صهاريج عدمه..
ويبدو أن خيط القلق يسيطر على مشاعر شاعرتنا المبدعة ولكن من خلال رؤية أخرى:
عشر سنوات مرت من عمرنا
وكأنها لم تمر كلحظات
تمضي مخلفة وراءها الذكريات
وتتساءل:
أهكذا تمضي السنوات
تسابق بعضها الآخر
وتترك لنا بصمات؟!
تلك هي حقيقة الحياة رحلة سفر نطويها بخطانا وتطوينا بكفن النهاية
إنا لنفرح بالأيام نقطعها
وكل يوم مضى يدني من الأجل
ويبقى الأمل في اجتياز الرحلة بسلام ما أمكن إلى ذلك سبيل.. لنأخذ من الطفولة براءتها.. ومن الشباب عنفوانه.. ومن الكهولة وهنها.. إنها الواقعية.. ولا ضير أن نتطلع إليها في النهاية كما تشائين.
أهكذا تجري السنوات
تسابق بعضها الآخر
أخشى جنون الشهور
وأنا أنظر بذهول
إلى آثار السنين.. وبصماتها
أحزان خلفتها. وهموم
في هذا المعنى قال شاعرنا القديم
فيوم علينا.. ويوم لنا
ويوم نساء.. ويوم نُسر
الأطفال والأزهار.. نقلة جديدة تجاوزت ظلال التساؤل.. واليأس.. والحيرة..
ما أروع الطفولة
كم فيها من أوقات جميلة
نلعب فيها.. ونمرح
وتصف الأزهار.. والأطفال:
هناك في شرفتي أزهار تثير فرحتي
كلما حدقت إليها
ووجدت براعم جديدة فيها
هذا عن الزهر.. وعن الأطفال:
والأطفال.. كم هم رائعون
عندما يتجمعون.. ويمرحون
ويقهقهون قهقهات عذبة
لضحكاتهم براءة حلوة..
تتغلغل في الشعور
عذبة كأريج الزهور
أواه.. يا الله.!
الطفولة يا شاعرتنا عذبة حتى في شقاوتها. ناهيك عن براءتها.. حتى بدايات الحياة تأتي مجنحة بخواطر طفولية جميلة ما أن يتقدم بها العمر حتى تلفعها ريح الشتاء فتتساقط أوراقها على قبضة المتغيرات..
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
إلى الآن لم نكبر لم تكبر البهم
جمعهما حب الطفولة.. وفرقت بينهما تدخلات الرجولة.. هكذا صور الشاعر واقعه وواقعها الحزين.
أما هي - أي سارة - فكانت لها نبرة حنان وحنو وهي تداعب صغيرتها شعراً وحدانياً أشبه بالقبل..
عذبة أنت يا صغيرتي
لا شيء في الحياة يضاهي عذوبتك
الطبيعة الرائعة لم تصل إلى روعتك
وخرير ماء الجداول
محال أن تكون كرنين ضحكتك
وتغريد البلابل مهما كان شجيا
فليس كشجو لثغتك
وتنهي خطاب أمومتها لطفلتها قائلة:
فيا لسعادتي بقهقهتك
تنتشي بها روحي
وتريح عن قلبي أثقال همي
يا صغيرتي
خطاب مليء بالدفء.. والصور الرومانسية الجميلة رسمتها بريشة أمومة هي عنوان كل أمومة ترى حياتها في حياة صغارها.. حتى وبعد أن يكبر الصغار.. لأنها الأم. وهذا يكفي.س
ومن مشاعر أمومة نحو صغيرتها إلى مشاعر ابنة نحو والدها الذي رحل.. وترك برحيله فراغاً لا يمكن ملؤه..
تقول سارة بوحيمد في مقطوعتها (ذكريات مؤلمة) وهي تتذكر شريط حياتها بوجوده.. ثم بفقده..
مللنا.. سئمنا
حتى الربيع والزهور.
حتى غناء الطيور
حتى انبثاق الماء من نافورتنا
لم يعد ما يدخل البهجة إلى قلوبنا..
ونتذكر ما قبل الرحيل.. وكله جميل.
أين ذاك المقعد الكبير
الذي كان يجلس عليه أبي
يضيء حياتنا بوجهه البشوش
ويبعث السعادة في قلوبنا
مفردات بسيطة لا تكلف فيها.. أعقبتها مفردات تكفل بصياغتها صوت الوجع.
المكان خال هذا العام تحت الياسمينة
لقد رحل أبي
رحل من كان سر سعادتنا
رحل أبي ورحلت معه كل بهجة
فيا شجرة الياسمين لا تزهري بعد الآن
ويا أيها الزهور.. والورود لا تتفتحي
وأنت أيتها الطيور لا تغردي
أما أنت أيتها المقاعد الجامدة هناك
تحت الياسمين فابقي أنت كما أنتِ خاوية
فالراحل لن يعود..
بهذه الشحنة من الحب والبر ودّعت والدها.. وودعت برحيله كل جماليات الحياة.. وكل نضارتها، وربيعها.. صعب يا شاعرتنا أن نسدل الستار بكل هذا الحزن على الوجه الجميل الباقي لنا في دنيانا.. إذا لما بقي في الكون زهرة.
ولا في النجوى نبرة.. ولا في الجدول قطرة.. مزرعة الحياة تحصدها فؤوس الموت في كل لحظة..
وتتجدد الحياة بتجدد الأحياء.. ويتجدد معهم الأمل من جديد.. والكون من جديد بطيوره.. وزهوره، وسواقيه..
وبعد:
مجرد نظرة تأمل عابرة فيما أمكن الوصول إليه والحصول عليه من تأملات وخواطر شعرية.. أو نثرية فنية لا يهم.. المهم أن شاعرتنا سارة بوحيمد قيمة في عطائها.. تتملك رؤية مرهفة موغلة في التصور الإنساني خاطبته تارة بالتمرد عليه ورفضه.. وتارة بالشكوى أو الحيرة والشك.. وثالثة بملامسة الواقع الحياتي بخيره.. وشره.. بحلوه.. ومره..
لها.. ولشقيقها الشاعر ناصر مني كل التحية.. والعتب على غياب لا أدري دوافعه.. الساحة الفكرية في حاجة إلى كل الموهوبين.. وهما دون أدنى شك يملكان موهبة من الصعب خسارتها أياً كانت الظروف.


الرياض ص ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved