الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 19th June,2006 العدد : 158

الأثنين 23 ,جمادى الاولى 1427

مرزوق بن تنباك وقضية الوأد 3
محمد العامر الفتحي
سابعاً - وحين ننظر إلى ما
أورده عن قيس بن عاصم، سنجد أنفسنا بين طرائق لا تلتقي، فالدكتور حيناً يصدّق ما أوردته (المصادر القديمة) عن قيس واشتهاره بالفضائل وكريم السجايا.. بل يعتمدها دليلا على أنه لا يمكن لرجل في فضله وحلمه وعقله أن يقتل ولده.. ثم يورد نقلاً عن تلك (المصادر القديمة) ما يشوّه الصورة الجميلة لهذا السيد العربي الكبير، وينقض هذه الخصال الحميدة، حتى إنه ليحتقر ابن عمه - عمرو بن الأهتم الذي تركوه في رحالهم لصغر سنه - عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم. يصدّق الدكتور المصادر القديمة التي تتحدث عن هذا لأنه سيتخذ منه دليلاً على قضيته! ثم يكذّب تلك المصادر حين تكمل نفس القصة، في نفس الزمان والمكان، فينكر الجزء المتعلق بسؤال قيس الرسول صلّى الله عليه وسلم عما كان يفعله من الوأد في الجاهلية، لأنه لا يريد إثبات هذه القصة! ولست أريد من هذه الملاحظة إلا أن أريكم كيف يختار الدكتور منها ما يوافق ما يريد فيأخذ من الأثر الواحد جزءا فيصدقه ويقيس عليه.. ويرفض جزءا فيكذبه! أما كيف فعل الدكتور ذلك! فلأنه يتخذ من الجزء المتعلق بحادثة إنقاص قيس من شأن ابن الأهتم دليلاً على أن قيساً لم يئد بناته، فلو كان قيس قد فعل لكان عمرو بن الأهتم قد هجاه بذلك لما بينهما من العداوة.. والدكتور يتعمد ألا يكمل القصة! لأنه لو أكملها لكانت نقضت نظريته! نسي الدكتور هنا أن المصادر التي يعتمدها الباحث تكون حجةً له.. وفي الوقت ذاته تكون حجة عليه. وأن إعمال العقل لاستنتاج التأييد.. يستلزم قبله إعمال العقل ذاته لفحص الدليل. وأنه لا تثبت قصة العداوة ما لم تثبت قصة الوفادة على الرسول صلّى الله عليه وسلم ومن ثم قصة السؤال عن الوأد، وقصة سؤال أبي بكر لقيس بن عاصم! وأنه لو ثبتت قصة العداوة، فإننا مع ذلك لا ننتظر من عمرو بن الأهتم أن يهجو قيساً بالوأد، لأن عمرا من تميم، وتميم قد ثبت في حقها أنها تمارس عملية وأد البنات، فالقضية مشتركة، وليست خاصة بقيس. ثم إن في تعيير عمرو لقيس بالهزيمة وسباء الأهل، إنما هو تعيير للقبيلة كاملة، وعار يلحق بها مجتمعة، فلم يقاتل قيس وحده، ولم ينهزم وحده، ولم تسبَ نساءه وحده!
ثامناً - يجد الدكتور بين يديه
نصوصا صريحة في تحريم وأد البنات، وهي نصوص أوردتها كتبٌ بلغت شأواً بعيداً في المصداقية والدقة، كتبٌ شهد لها الدهر كله بالدقة والإصابة والصحة.. كتبٌ لا تقارن (بالمصادر القديمة التي تعامل معها وفق هوى نظريته) تصديقاً تارة وتكذيباً أخرى.. كتب البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبي داوود وسواهم من ثقات جامعي الحديث.. حين يجد هذا كله ثم لا يجد سبيلاً إلى تأويله بالمجاز وخلافه.. ثم يصرّ على أن نظريته يجب أن تثبت.. عندها يلتفت التفاتة غريبة إلى قاعدة يتبناها.. دون أن يعلم أنها لا تبرئ بحثه! والأمر هنا يتعلق بحديث الرسول صلّى الله عليه وسلم في النهي عن (قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ومنع وهات وعقوق الأمهات ووأد البنات).. وهو كما نرى نصٌّ صريح في منع وأد البنات.. ولو لم يكن الوأد موجودا لما نهى الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم.. ولكن الدكتور لم يجد وسيلة يتخلص بها من هذا الدليل الصريح.. فتفتق ذهنه عن مسألة ظنها تنجيه بما يشاء! لقد أخذ يعدد مرات ورود الحديث في مظانه.. ويقارن بين وروده وفيه النص على الوأد.. ووروده خالياً منه.. ليخرج بالنتيجة التالية:
- ورد عند البخاري ثماني مرات ذكر الوأد في أربع منها فقط.
- وورد عند مسلم أربع مرات ذكر الوأد في اثنيتن منها فقط.
- وورد في مسند أحمد إحدى عشرة مرة ذكر الوأد في أربع منها فقط.
ليتخذ من عدم ورودها في بعض مواضع هذه الكتب الموثوقة دليلاً على أنها (لا تثبت )! برغم ورودها - باعترافه - عشر مرات! وهكذا يسارع إلى إسقاطها من حساباته البحثية! ليس هذا فحسب.. بل نراه يكيل لجامعي الحديث ما سبق أن كاله للمفسرين من اتهامات، فهو يرى أنها زيادة لا تثبت زادها رواة الحديث متابعة لما ذكره الفرزدق عن الوأد! (جاءت رواية حديث ورّاد هذا مروية بالمعنى متابعة لما ذكره الفرزدق في الشعر)! ولو أن طالباً اتهم الدكتور مرزوقا بأنه إنما قال ما قال (متابعة) لفلان من الناس لاستشاط غضبا، ولبرّأ نفسه من تهمه إهمال أساليب البحث، وإهمال العقل والتفكير المنطقي، فكيف ونحن نتحدث عمّن جمع حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكيف ونحن نتحدث عن سادة علمي الجرح والتعديل، وكيف ونحن نتحدث عن من كشف الموضوعات، واحتاط غاية الاحتياط حتى تصل إلينا أحاديث المصطفى صلّى الله عليه وسلم سالمة من كل ما يطعن في صحة روايتها!
إن الاستشهاد بعبارة وردت ولو لمرة واحدة في هذه الكتب الصحيحة لا يقارن به أبداً في البحوث العلمية الباحثة عن الحق أيّ من الروايات التي اعتمدها الباحث ثقةً منه في كتب الأدب والتاريخ (كبقاء قيس محتبياً وابنه قتيل بين يديه) فكيف وقد وردت عشر مرات!
تاسعاً - ومما يورده في باب المقارنة
بين قيس بن عاصم سيد تميم، و(سيد أهل الوبر) كما وصفه الرسول صلّى الله عليه وسلم وصعصعة بن ناجية الذي أنقذ كثيرا من الموؤدات، لأن الدكتور أراد أن يثبت أنه لو صدق الحديث عن الوأد والاستنقاذ، لكان الشعراء قد مدحوا صعصعة بن ناجية كما مدحوا قيس بن عاصم يقول: (ولو أخذنا بالمقارنة بينه - يعني صعصعة بن ناجية - وبين قيس بن عاصم لوجدنا الفارق كبيرا. فقيس تحدث الناس عن حلمه وعن سيادته وعن مكانه في تميم وهو فرد لم يصنع ما صنع صعصعة ولا قارب ذلك ولا شابهه)! ولست أعرف ما يقصده بقوله (وهو فرد) ولكنني سأعلق على قوله (لم يصنع ما صنع صعصعة ولا قارب ذلك ولا شابهه) فقد ذكر الدكتور مرزوق ابتداء من الصفحة الثانية عشرة من فضائل قيس ما استغرق خمس صفحات.. ذكر حلمه ونعتَ الرسول صلّى الله عليه وسلم له بقوله (هذا سيد أهل الوبر) وذكر قيادته لقومه في حروبها فقال عنه (كان الرئيس يوم الكلاب الثاني وقد انتصرت تميم على اليمن انتصارا ساحقا، ويوم جدود وفيه هزموا بني شيبان وكان على تميم يوم النباج وثيتل وفيه انتصرت تميم على بكر بن وائل..). فمن الغريب أن يعود ليقول عنه: (لم يصنع ما صنع صعصعة ولا قارب ذلك ولا شابهه) ومعلوم أن العرب لا تسوّد فيها إلا من اكتملت خصال الرجولة الكاملة فيه، ولكنّ هذه النقطة من بحث الدكتور تحتاج إلى دليل عقلي ينفي الاستنقاذ، وبالتالي ينفي الوأد! وقد سبق إيضاح أن مدح الشعراء لصعصعة بما فعل فيه كثير من الوقوع في المحذور.
عاشراً - ويقول الدكتور في مكان
آخر (وهل يقبل العرب التي تروي الروايات عنهم شيوع الوأد فيهم اتهام نسائهم بالخيانة والغدر فيئدون كل أنثى ولدت بعد عمل قيس. أسئلة لا أظن أحدا يجد الإجابة المناسبة عليها ولا قبولها إلا أن يلغي عقله)! ودون أن نلغي عقولنا نقول: لا نقبل التعميم فلم تكن العرب كلها تئد.. ولم يقل أحدٌ بأن العرب جميعا كانوا يئدون جميع البنات.. يريد الدكتور بهذا التعميم أن يوهمنا بأن الأمر مستحيل قياساً على كونه بهذه العمومية والتفشي..! ويربط الوأد بجانب واحد.. جانب اتهام المرأة بالخيانة..! ونقول إن الأمر لم يكن في كل القبائل، ولم يكن عاماً لكل أنثى.. ولم يكن مرتبطاً بالعار! كانت العرب تئد للفقر.. وقد وردت الروايات الكثيرة التي تؤيد ما ذهبنا إليه.. فقالوا بأن القبائل التي انتشر فيها الوأد كانت محدودة.. وقالوا بأن الوأد كان بالتناوب بين الإناث! وأثبتت جميع الروايات التي تحدثت عن الاستنقاذ أن الوأد فيها كان بسبب الفقر! ولو لم يكن كذلك.. ولو كان كما يريد الدكتور أن يقول.. خاصا بالعار.. لما رضي أحد منهم الرجوع عن وأد ابنته.. ولما تمكن صعصعة وغيره من استنقاذ فتاة واحدة!


يتبع

الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved