الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th September,2005 العدد : 123

الأثنين 15 ,شعبان 1426

ثورة في الثورة!
ميشيل كيلو *

هناك تقليد في الدول الشمولية يقوم على ازدراء الثقافة ووضعها تحت جناح سياسة السلطة وفي خدمتها، علماً بأنها سياسة متقلبة متلونة متغيرة، تختلف من مسؤول لآخر ومن يوم ليوم، وتفتقر إلى أي سياق ينظمها، أو رابطة تجمع أجزاءها.
في هذا التقليد يرى السياسي في المثقف إما خادماً له وإما خطراً عليه، فيزدريه ويحتقره ويحوله إلى أداة للاستعمال في الحالة الأولى، ويعذبه ويضطهده ويجعله عبرة لمن يعتبر في الثانية.
لكن بعض المثقفين، الذين يخدمون في قطاع سياسي أو أمني الأهمية؛ كاتحاد الكتاب أو الصحفيين، يعانون بمرور الوقت وطول المسؤولية من فصام شخصي وعام يجعلهم يحتقرون أنفسهم كمثقفين ويعظمونها كسياسيين، ويضعون المثقف في خدمة السياسي فيهم، ويطالبون غيرهم من المثقفين بالرضوخ لهم باعتبارهم قادتهم الذين يوجهونهم ثقافياً، وبالانصياع لرغباتهم بصفتهم مسؤولين عنهم سياسياً.
هذه الحالة الفصامية والمركبة هي أصعب الأمراض التي أصابت مثقف السلطة في سوريا، وهي موجودة بكثرة لدى العاملين في الحقل الثقافي الذين كانوا ذات يوم مثقفين ثم حوَّلهم الموقع السياسي/ الأمني الذي أُسند إليهم كي يضبطوه ويراقبوا مثقفيه إلى كوادر أمنية تعمل في المجال الثقافي؛ المجال السياسي المنصب على الثقافة بالأحرى، انقلبوا إلى موظفين كغيرهم من موظفي السلطة، وتمسكوا بمواقعهم؛ لأنهم اعتبروها ملكية شخصية يحق لهم أن يفعلوا بها ما يريدون، وأن يبقوا فيها قدر ما يرغبون، ولم لا؟! ألا يبدلون هم أيضاً جلودهم بتبدل الظروف والأحوال، ويغيرون خطابهم بتغير الخطاب العام، ويمدون الأجهزة بمعلومات وافية عن أي مثقف تحت (قيادتهم)، ويحفظون الأمن والنظام في مملكتهم؟!
ولماذا لا يقاوم المثقف الفصامي إخراجه من موقعه ويعتبره انقلاباً غير شرعي على سلطته الشرعية التي بناها بعرق كرامته، وضحى من أجلها بالغالي والرخيص، وأراق خلال صعوده إليها ماء وجهه أمام مَن أوكلوها إليه قبل أن يريق ماء وجه غيره بعد أن استتب له الأمر أسوة بغيره من القادة والزعماء الذين حوَّلوا وظائفهم إلى قطاع خاص سوَّروه بعلاقات شللية أمنية الطابع، وأرسوا دعائمه على التفرد به وربطه بأشخاصهم دون جميع خلق الله، ودمجه في نظام يعمِّم سياسة (كُلْ واشْكُرْ): كُلْ غيرك واشْكُرْ سادتك وحماتك، بينما تسعى لجعل نفسك خياراً إجبارياً يلتزمون به في جميع الظروف والأحوال، على ما في هذا من صعوبة تقارب حدود الاستحالة؟!
بعد فترة من الوظيفة يصير مثقف السلطة الشمولية حارس كرسيه وامتيازاته، يتعيَّش على ثقافة ليس من مبدعيها، بل هو يراقبها ويضبطها ويقمعها ويشي بها من جانب، ويعرف كيف يتظاهر بأنه بديلها من جانب آخر.
إنه، في دوره ككادر سياسي/ أمني، يضبط المجال الثقافي، يمثل الثقافة ونفيها، لذلك تراه يركز جهوده في رمي الآخرين إلى خارج حقلها، بينما يحقرها بتحويلها إلى دعاية للنظام مقطوعة الصلة بالمعرفة والفكر، وبالعصر وحاجات ومشاعر مواطنيه ورغباتهم.
أخيراً، فإنه يقوض الثقافة بقلبها من ساحة محورها المعرفة إلى صراع بين أشخاص يسهل عندئذ الطعن في وطنيتهم وتشويه سمعتهم.
لا يترك حارس الثقافة مكانه برضاه، ولا يعترف بسنة الله في التغيير، لذلك يتم طرده منه. هذا ما حدث مع عرسان أهم كادر أخضع الثقافة لاعتبارات السياسة والأمن وتمسك بموقعه إلى أن تم طرده منه بمعنى الكلمة الحرفي عبر (ثورة في الثورة) مع الاعتذار من صاحب هذه المقولة ريجيس دوبريه قام بها رفاقه الحزبيون وخصومه الكثيرون، تجاهلها إلى اللحظة الأخيرة لاعتقاده أن مَن نصَّبوه على رأس الاتحاد لن يتخلوا عنه، وأنهم يعرفون صلاحيته لكل زمان ومهمة، وقدرته على تكييف نفسه وموقعه مع أي شيء.
ليست نهاية علي عقلة عرسان بالمسألة القليلة الأهمية، إنها نهاية زمن وبداية زمن آخر لن يكون زمناً أفضل بالضرورة، إنها نهاية زمن رديء وبداية زمن لا أحد يضمن أنه لن يكون رديئاً بدوره كما علَّمتنا تجربة سوريا خلال العقود الأربعة الماضية، عندما كنا نستبشر خيراً بذهاب مسؤول ما فيأتي بديله أكثر سوءاً وسلطوية منه، وأشد تكالباً على الفساد وقدرة على ابتكار أساليب ضبط وربط جديدة.
ثمة، على رغم كل شيء، دلالة عامة لذهاب عرسان؛ فالطريقة التي أدار بها موقعه وحفلت بالأحقاد الشخصية على زملائه، وخصوصاً المبدعين منهم الذين بادر إلى طردهم من الاتحاد والتشهير بهم كأدونيس، وامتنع عن الاهتمام بهم أو زيارتهم على رغم مرضهم سنوات عديدة كسعد الله ونوس وأنطون المقدسي، وكلَّف أتباعه في الاتحاد بالاعتداء عليهم كالروائي خيري الذهبي، تقادمت بسبب (ثورة المثقفين) عقب وفاة حافظ الأسد عام 2000م التي همَّشت اتحاد الكتاب ورئيسه وأخرجتهما من الحقل الثقافي، وحتمت البحث عن سبل جديدة لاحتوائهم يفتقر عرسان إلى القدرة على تطويرها بسبب وضعه الخاص كمتسلط سيئ السمعة يمقته العاملون في الاتحاد وزملاؤه في الحزب أكثر مما يمقته خصومه الكثيرون جداً.
إنه، إذن، زمن جديد يتطلب وجوهاً جديدة وأساليب جديدة، لكن عرسان لم يفهم هذا، فعُومل بفظاظة على مرأى من الكتاب خلال مؤتمرهم، ثم طرد من منصب تخيَّل أن الأمن سيضمن وجوده فيه إلى الأبد.
زمن جديد، أساليب جديدة، هل ينجح خليفة عرسان فيما فشل هو فيه؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه من الآن فصاعداً في ظرفٍ تلاشت خلاله قدرة الاتحاد على ممارسة تأثير جدي في المثقفين بعد أن فك هؤلاء ثقافتهم عن السياسة السائدة ومؤسساتها، وشرعوا ينتجون ثقافة جديدة ومستقلة عن الحقل السلطوي والسياسي السائد ومضادة له.


* كاتب سوري

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved