الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th September,2005 العدد : 123

الأثنين 15 ,شعبان 1426

عقوبة (حسن) الحياة
ماجد الحجيلان

لقد بكّر عبد الوهاب البياتي كثيراً حينما قال: (محكوم بالإعدام أنا.. عقوبتي هي الحياة!).. معبّراً بصدقٍ شفاف عن ذلك الموت الذي لا يكاد يعرف، إنه الموت داخل الجسد، أو إنه السجن داخله والتوق إلى التخلص منه قفصاً وأغلالاً وصخرة، إنه سؤال النجاة بالروح من أعباء الجسد التي تبهظ الوجدان، انها تلك اللحظة التي تستطعم اللا جدوى واللا شيء ويُعتقد اليأس الذي هو الراحة الأخرى.
هكذا يمكن وصف ما يحياه الآن (حسن) البواب، العم حسن الذي يقف منذ أربعين عاماً أمام البوابات يحرسها، ينام على الرصيف ويلتحف ما ينتخبه من مهملات سكان العمارة، يدلف إلى الخامسة والسبعين بكامل هباته وحكمه التي ينثرها على العابرين والواقفين وزوار العمارة، بلهجته الصعيدية المطعّمة والأسماء التي يحرفها بفرادة وحداثة، والأوصاف التي ليست لغيره دون محاكاة ولا تردد ولا مواربة.
يرقب بعينين صغيرتين لامعتين الداخلين والخارجين ويصدر أحكامه التي قلما تخطئ عليهم، فهذا محدث نعمة وهذا بخيل مقتر وهذا (ابن حلال) وذاك لا تقترب منه، والنساء لأبي أحمد حكايات مع النساء يفاجئك انه يزهد بكل الملذات وعلى الأخص الأكل والنوم لكن (الحريم)، يمتّع ناظريه وتفتنه حتى الولع الطويلة الممتلئة مثلما يحب السيارات الكبيرة ويحترمها.. يرقب جسدها وهي تحييه (ياعم) فيشفق عليها ويخدمها لكنه لا يعفيها من رأيه الحديدي في النساء اللواتي يعرفهن كما لا يعرفهن أحد فقد خبر عن قرب ربات البيوت والفتيات والمحترفات والموظفات والعاملات المنزليات ولكل منهن عادات ودخلات وخرجات وصفات والتفاتات لا يصفها ولا يعرفها سواه أتقن هذه المهنة كما لا يعرفها مخبر ولا فضولي ولا رقيب، وبذل فيها عمره وراحة روحه، أربعين عاماً من التنقل بسريره المهترئ بين الغرف الضيقة والزنازين التي تخصصها العمارات لبوابيها.
لم يفشل أبداً العم حسن في بناء مسكن لائق في بلدته لزوجته وأبنائه وحينما كبروا لم يتردد في تزويجهم وإهدائهم سكناً يفوق إمكاناته وموارد للرزق يعجز عنها من مثله، مذكراً دوماً بأنه (مش عايزهم يشوفوا الغلب اللي أنا شفته).
وكانت مكافأته في كل زيارة وبعد سنوات يضاعفها في كل مرة أن يطلبوا منه أن يعجل بالعودة إلى العمل، وأن يستحلبوا مدخراته وخزنته الحديدية.. اليوم يقول بحسرة إن الزوجة والأولاد ما عادوا يريدونني بينهم.. وحينما يزور بلدته الصغيرة لا يجد أحداً يعرفه، فأصدقاؤه تفرقوا بين القبور والمستشفيات والغياب، لا أحد يستقبله أو يسأل عنه، وحينما يسير في ملكه يحس بغربته ولا انتمائه أكثر مما يحس بها في غرفته الصغيرة إلى جوار المصاعد في البرج الباذخ في الرياض..
العم حسن ينتظر الآن شيئاً يخلصه من هذه العقوبة التي يعيشها ينتظر زائراً لا أحد يرحب به، يود لو أن شيئاً كبيراً يحدث في هذه الدنيا المرّة فيرتاح، فلا شيء من متعه الصغيرة يستلذ به الآن لا رغيف البر الساخن ولا كوب الشاي الأسود الثقيل ولا الشجارات الحميمة التي يفتعلها مع العمال حول شؤون العمارة.. إنه يغصُّ بهذه الحياة ويشعر أنه تورّط فيها ويسأل عن جدواها، الغريب أنه لا يندم على أناه التي ضيعها في الوفاء للجاحدين لكن حزنه النبيل يمتد أكثر فأكثر كلما تذكر كلمات من أحبهم وأخلص لهم فلم يحبوه وتذكرهم فنسوه، فإذا استغرق في الضحك توقف فجأة وقال (ضحكنا كثير النهارده ربنا يستر) البارحة تأمل في غرفته كثيراً ثم قال: متى سأنهي خدمتي؟


hujailan@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved