الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th September,2005 العدد : 123

الأثنين 15 ,شعبان 1426

أعر اف
ينابيع الذاكرة:
سعدي الذي عرفت (1)
محمد جبر الحربي

في عام 1962م كتب سعدي يوسف من البصرة إلى أبي تمام قائلاً:
(ما عاد عالمنا استعارة
معنى، وتشبيهاً، وزخرفة ثمينة
ما عاد عالمنا تجارة.
**
لكنني، والبحر يغسل جبهتي برداً ولينا
سأظل منتظراً خطاك
وحديثك الليلي، يا قمراً حزينا..
***
لو جئت عالمنا، لكنت معي سجينا!)
وبالفعل عاش سعدي سجين غربته كمبدع وكمغترب، موزعاً على العواصم، وإذ رأى بعض المغتربين إمكانية العودة إلى بغداد مهيأة اليوم، رأى سعدي خلاف ذلك، واستمر بعيداً عن (السماء الأولى)، مواصلاً نأيه في بريطانيا، يكتب قصائد تقطر دماً على ما أصبح عليه العراق اليوم.
التقيت الشاعر الكبير سعدي يوسف أكثر من مرة، وفي أكثر من عاصمة، وكنت التقيته مرات ومرات لا تحصى على صفحات البياض المنقوش بإبداعه وترجماته السلسة الدافئة التي تحمل حرفيته، وروحه الشعرية.
أول ما تعرفت على شعر سعدي عبر أعماله الشعرية الكاملة عام 1982م، وكانت نسخة مستعارة طبعت في دمشق على ما أذكر في العام 79م، سرعان ما استبدلتها بواحدة اشتريتها من هناك في نفس العام، وكنت شغوفاً بها أطالعها في مقاهي دمشق، وأحفظ مقاطع منها بإعجاب كبير.
ومن دار العلوم في الرياض، مصدر كتبنا الأول بعد السفر، ابتعت أول كتابين أطالعهما من ترجمة سعدي وكانا لهنري ميلر، وريتسوس شاعر اليونان الكبير وعنوانه (إيماءات)، وأعتقد أنه سبق فيه الآخرين إلى فهم هذا الشاعر المهم، واقترب فيه من روح الشعر أكثر من غيره.
ثم تابعت كل أعمال سعدي تقريباً وأحسست بقرب شديد من كتاباته، وإن لم يكن ذلك مقروناً بقربٍ من مواقفه.
التقيت سعدي أول مرة في باليرمو بصقلية إيطاليا، أو هي صقلية العرب، حيث دعينا من قِبل عمدة (جبلينا) والد المستشرقة فرانشيسكا كوراو التي ألّفت كتاباً عن شعراء المنطقة إبان الزهو العربي الإسلامي.
كان احتفالاً رائعا بالكُتَّاب، وبجبيلينا العربية، وبالشعر، والشعراء العرب والإيطاليين، وكانت فرصة العمر أن ألتقي بالشاعر الذي أكن له احتراماً كبيراً، وحباً لا يُوصف.. ومَنْ مِنا يقرأ (الأخضر بن يوسف ومشاغله)، و (نهايات الشمال الإفريقي) ولا يسعى إليه سعياً.
ثم التقيت سعدي في مسقط في مهرجان الشعر العربي الأول، وكان لي أن أحصل على وقت أطول مع الشاعر والإنسان الكبير..
كان الجميع مشتاقاً لسعدي، وفرح به.. معظمنا تتلمذ على تجربته، وكنت أنا والشاعر محمد الحارثي نشاغبه ببعض المقاطع من شعره مع قهوة الصباح، فيرد علينا بضحكة عالية:
(صباح الخير عبد الناصر الغلطا)
بعد اختتام المهرجان دعانا الشاعر الصديق محمد الحارثي، وأخوه الشاعر دوما كتابة عبدالله، للإقامة في بيتهما الأصيل الكريم، ونفحا كلاً منا غرفة خاصة، أما الصالون فكان صالوناً ثقافياً بحق حيث يجتمع مثقفو عُمان مع شاعرهم الكبير من الصباح الباكر، ويعدون لنا برامج غاية في الجمال، تعرفنا فيها على البر والبحر، وفي الصحراء كان سعدي يجمع السمر مميزاً إياه عن غيره من الأغصان، وفي الجزيرة الصغيرة التي اصطفيناها كان يدهشنا بخبرته في أنواع الصخور والحجارة والأصداف...
لقد كان يتفحص كل شيء، وبعين ثاقبة يقرأ كل التفاصيل..
إنه شاعر التفاصيل بحق.
كان لهذه الأيام أن تعرّفني على تفاصيله الصغيرة، وعينه المدربة، وثرائه المعرفي، وبساطته، وحزنه العميق الذي يتناسب مع شعره الرمادي، وكنت أقول في نفسي: وهذا شاعر آخر يشبه قصيدته:
(حملتُ على رمال شمال إفريقية السعفا
وأحرقتُ الخرائط في مرافئ مصر:
بين الشرق والمنفى
وعبر دروب بنغازي، ودرنة، كنتُ أسأل عن هويتي
التي مزّقتها نصفين:
أعطيتُ المفوضَ نصفها، وحبيبتي نصفا).


mjharbi@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved