الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th September,2005 العدد : 123

الأثنين 15 ,شعبان 1426

(اقرأ)..
لفظةٌ قُرآنية لها معنى غير (القراءة)
د. إبراهيم عباس نَتُّو *
إن فهمَ لفظةِ (إقرأ) عندي يختلفُ عن المتداول بين عامة الناس وخاصتهم في سياق ما جاء في الأثر عبر أكثر من 14 قرناً مضت. فكثيراً، وربما دائماً، ما نقرأ أو نسمع عبارات مثل (أول كلمة نزلت في القرآن هي (إقرأ)، يقولونها بغرض توضيح أهمية (القراءة) عندنا وفي تراثنا.. ومع أن للفظة صلة كثيبة ب(القراءة) كواحدة من المعاني، ولكن لي رأياً آخر.
فمفهومي، بناءً على تتبعي الشخصي وإلمامي بشيء من إحدى اللغات السامية، يقودني إلى أن المعنى الأقرب للكلمة لا علاقة له بالقراءة، في سياق القراءة والكتابة، بل هناك معنى آخر، إضافة إلى عدة قرائن ومؤشرات موضوعية وموضعية صاحبت منطوق العبارة المأثورة (إقرأ بسم ربك).. بما يتصل بأحداث أوائل و(بدايات الوحي). أما إذا تم تقديم الفرضية البديلة، بأن سورة (المدَّثر) سبقتها، فذاك يجعل حتى كلمة (إقرأ) محل نظر، عن كونها المنطوق (الأول). ولكن، يبقى المعنى اللغوي لكلمة (إقرأ) وأنها لا علاقة لها بالقراءة والكتابة، هو موضوعنا هنا.
فحسب فهمي ومتابعتي، فإن كلمة (إقرأ) هنا تأتي لتعني: اُدْعُ، أيْ بلِّغ، أصدع/ أعلن، أنشُرْ،.. وليس بمعنى (إقرأ)، بما يتصل بالقراءة والكتابة وفك الحرف.
ولقد كان هذا هو المعنى الذي اعتمده المترجم الأشهر في العالم عبدالله يوسف علي (ترجمة معاني القرآن الكريم بالإنكليزية) وهي الترجمة التي تبنتها منظمة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، من القرن الماضي، وتوزع في أنحاء العالم. يستعمل هذا المترجم العريق لفظة (أعلن) proclaim كاللفظة الأولى والمقدمة على غيرها من المعاني في ترجمته وتفسيره هنا (ص1672).
وعلى هذا يتم في رأيي اتساق الجناح الآخر في المقولة المأثورة: بأن سؤال ومقولة الرسول (صلى الله عليه وسلم) (ما أنا بقارئ) كانت في صيغة وسياق السؤال والاستفسار، وليست في صيغة (الإنكار) و(النفي). فالمقولة: (ما أنا بقارئ) لا تعني: لست بقارئ.. بل تأتي كسؤال واستفهام.
فلفظة (ما) هنا لم تأتِ في معنى الإنكار والنفي (أنا لست بقارئ، أنا لا أقرأ)، بل جاءت لفظة (ما) بمعنى الاستفهام والاستفسار، كقولك: (ما أنا بقارئ؟) بمعنى: ما المطلوب مني قراءته؟؛ ماذا أنا بقارئ؟ ما المطلوب مني (تبليغه؟) و(ما المطلوب مني الدعوة إليه أو به)؟ فيكون الجواب متناسقاً: إقرأ أي بلِّغ.. وأصدع/ أعلن/ أشهر.. وانشر، وادعُ.. بسم ربك...
ونشير إلى القول المألوف الذي يبين استعمال كلمة (إقرأ) بمعنى (بلِّغْ أوصِلْ)، وذلك باستخدام العبارة التي تتداولها كتبُ القصص والسِيَر، وأيضاً كتب التلاميذ، حيثُ العبارة المشهورة: (يا غلام، اذهب إلى فلان، وأقرئهُ السلام)، أي بَلِّغهُ السلام...).
وكذلك جاء في الأثر أنه (صلى الله عليه وسلم) دخل على خديجة (رضي الله عنها) وهي على فراش الموت، فقال لها: (يا خديجة، إذا لقيتِ ضرائركِ فأقرئيهن مني السلام). فقالت: (يارسول الله، وهل تزوّجت قبلي؟) قال: (لا، لكن زوَّجَني الله مريمَ بنتَ عمران، وآسية امرأة فرعون، وكلثمَ أختَ موسى (وهي أيضا أخت هارون)). فمقولة (ما أنا بقارئ) هنا ليس لها علاقة بالقراءة ولا بالكتابة.. بل هي تتعلق بتبليغ الدعوة، الرسالة.
فإن سأل سائل: وماذا عن المفهوم المتداول والمصاحب منذ فترة طويلة لعبارة (ما أنا بقارئ)، مما قد ينم عن نفي القدرة على الكتابة والقراءة، فيكون جوابي ساعتها أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما كانت (الأمية) هاجسه ولا كان ذلك شاغله خلال تلك المحادثة الحاسمة الشهيرة؛ فما كانت الأمية أو الثقافة.. ولا مستوى اللغة والكتابة والقراءة شغله الشاغل في تلك اللحظة، بل كان الشاغل الحقيقي هو ما مَرّت عليه ومنذ فترة من حادثات استغراقية ومعاناتية وتجاذبية.. تتصل بالرسالة وإعلان الدعوة وإشهارها.. أو لا سمح الله التخلي عنها.. لولا دعم ومؤازرة السيدة خديجة (رضي الله عنها) وعمها رجل الدين (ورقة بن نوفل).. فلم يكن الموضوع هنا يتعرض لمدى الاستعدادات اللغوية القرائية والكتابية.
أما مسألة (الأمية) فهي الأخرى مسألة فيها نظر، وهي موضع نقاش، أخذاً في الاعتبار عدة مواقف ومناسبات أشارت إلى بُعدِه (صلى الله عليه وسلم) عن الأمية، سواء أكان في ذلك الموقف المشهور حينما اعترض مندوب مكة في المفاوضات في (صلح الحديبية) حينما رفض استعمال عبارة (محمد رسول الله)، وأصر على الاقتصار على (محمد بن عبدالله)؛.. وتمت موافقته (صلى الله عليه وسلم)، بينما تردد وامتعض كاتبه الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وهكذا طلب من مفاوض أهل مكة؛ فإذا بالرسول (صلى الله عليه وسلم) يحسم الموقف ويمسحها بنفسه، بأصبعه.. (وهناك مواقف أخرى كذلك).
كان اليهود في يثرب وفي فلسطين يصفون مجاوريهم العرب بكلمة (أميين)، ولا يقصدون الجهل بالقراءة والكتابة، بل كانت تلك الكلمة تطلق على كل من هو غير يهودي، (وأيضاً استعملوا الكلمة العبرية (قوييم)(goyiim) في صيغة الجمع بمعنى (الغرباء) ومفردها (قويْ)(goy). واستعملت كلمة (الأميين) لتشير إلى من لم يكن لديهم (كتاب). كما جاء في الآية (آل عمران 20): {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ (اليهود والنصارى) وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ}. فكان العرب إلى ما قبل هذه الفترة لا يُصَنَّفون على أنهم ذوو كتاب، بل ك (أميين)، بالمعنى الموضح هنا، وليس بمعنى جهل الكتابة والقراءة. ثم كانت الآية (الجمعة: 2): {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} (العرب والذين لم يكونوا مصنفين على الأقل إلى تاريخ تلك الفترة ك(أهل كتاب) {رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ...}.
ثم لديَّ إضافة أخرى قد يكون فيها مزيد من التوضيح، وهي أن كلمة (أمّيِّ) تأتي عادة مكتوبة بالميم المشددة؛ والتشديد في العربية يعني (مضاعفة) الحرف وازدواجيته، ولو بالشكل المُدغم الخفي، فتأتي الكلمة وكأنها (أممي)، مثل أن تقول (المنظمة الأممية) كما في منظمة (عصبة الأمم)، أو (الحروب الأممية)، ونحوهما. فإن كان ذلك كذلك فقد يكون المقصود أن الرسول نبيٌ أمميٌ ذو رسالة موجهة إلى عموم (الأمم) في أنحاء المعمورة وما وراءها (إلى العالمين)، فيكون المقصود، إذن، أنه النبي (الأمّي).. النبي (الأممي).


* عميد سابق في جامعة البترول
natto@batelco.com.bh

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved