الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th September,2005 العدد : 123

الأثنين 15 ,شعبان 1426

اقتصاد الفضائيات العربية
قاسم حول *

بداية لا بد من معرفة أن عدد الفضائيات العربية لا يمكن تحديده مع كتابة هذا الموضوع؛ حيث من الممكن جداً أن تظهر على شاشة الفهارس الخاصة بالأقمار الاصطناعية فضائية أو أكثر في فترة ما بين كتابة الموضوع ونشره، إذ تجاوز عدد الفضائيات العربية أو في منطقة الشرق الأوسط كما هو متعارف عليه حاضراً، تجاوز المائة وعشرين فضائية؛ فالفضائية الواحدة أصبحت تنتمي إلى شركة للفضائيات تفرخ فضائية رئيسة وأخرى للرياضة وثالثة للاقتصاد ورابعة للغناء وخامسة للعقار وهكذا؛ فالفضائية الواحدة هي قناة توازي صفحة الجريدة اليومية داخل الصحيفة الواحدة.
أصبحت الفضائية هي بمثابة الصحيفة اليومية المرئية. وتبلغ تكلفة تأسيس هذه الفضائية وفق إحصائية دقيقة أجريتها لقناة نظامية بمواصفات قياسية داخل إسبانيا ثلاثة ملايين دولار تكلفة معدات التصوير والمونتاج وإيجار الموقع على القمر الاصطناعي ورواتب المنتسبين، ويحتاج البث سنوياً إلى ما يقرب من سبعة ملايين دولار لشراء البرامج الجاهزة وإنتاج البرامج الوثائقية والإخبارية والسياسية التي تغطي بمجموعها ساعات البث مع الإعادة، من برامج ذات قيمة وثائقية نوعية، ليصبح الرقم الإجمالي للميزانية في السنة الأولى عشرة ملايين دولار، وفي السنوات اللاحقة سبعة ملايين دولار. هذا الرقم هو الذي حددته أيضاً الإدارة الأمريكية لتأسيس قناة الحرة الموجهة للعراق في بداية تأسيسها، لكن اللافت للنظر أن الإدارة الأمريكية نفسها أعلنت في نهاية العام الأول لتأسيس القناة أنها أنفقت سبعة وثمانين مليوناً من الدولارات على القناة؛ أي أن الرقم قد تضاعف ما يقرب من ثماني مرات. والسبب الذي يدعو إلى نفخ الميزانية لا يكمن سوى في سوء تقدير الإدارة للحسابات الدقيقة القائمة على الدراسة العلمية والجدوى الاقتصادية للقناة.
ولو نظرنا إلى كادر منتسبي القنوات الفضائية الذي يمكنه أن ينتج قناة فضائية متوازنة فإن الحد الأعلى للمنتسبين يجب أن لا يتجاوز المائة منتسب بين الطاقم الفني والهندسي ومقدمي البرامج والمراسلين، فحين نسمع بين الحين والآخر عن فصل مائة منتسب من قناة ما أو مائة وخمسين منتسباً من قناة أخرى، فيما تستمر القناة في البث دون أن يؤثر فصل هذا العدد من المنتسبين في طبيعة برامجها، فإننا نستطيع أن نقدر عدد منتسبي هذه القنوات حتى يصار إلى فصل هذا العدد من كوادرها الفنية والإدارية. ذلك يعني أن عدد كوادر تلك القنوات منفوخ عشر مرات في الأقل من العدد النظامي للقناة الفضائية البالغ حدود مائة منتسب.
في زيارتي إلى تلفزيون مصر في شهر تموز من هذا العام 2005م وفي اجتماع مع بعض مسؤولي القناة عندما سألتهم عن عدد فناني وفنيي وإداريي تلفزيون جمهورية مصر العربية جاءني الجواب بأن العدد يبلغ سبعة وثلاثين ألف شخص. وعندما أردت التدقيق في الرقم من جهة ذات اختصاص في القناة لأنه رقم خارج التصور حيث لا توجد قناة في العالم كله تحتوي هذا العدد من العاملين جاءني الجواب الدقيق أن الرقم هو ثمانية وثلاثون ألف منتسب وليس سبعة وثلاثين ألفاً!
فكم يا ترى تبلغ التكلفة الاقتصادية لفضائيات الشرق الأوسط؟ وما الهدف الذي تحققه هذه الفضائيات في عملية التطور الاجتماعي؟
لم يعد الاقتصاد اقتصاداً عربياً ولم يعد الحديث عن اقتصاد كهذا يعبر عن حقيقة واقعية؛ لذا فمن الصعب أن نتحدث عن رقم إجمالي لمجموعة القنوات الفضائية في منطقة الشرق الأوسط الذي سيتجاوز في مجموعه العشرين ملياراً من الدولارات، لذا فإن الحديث عن اقتصاد الفضائيات في كل بلد على انفراد يحمل صفة أكثر واقعية من اقتصاد الفضائيات العربية ككل؛ فالفضائيات ذات القنوات المتعددة قد تصل ميزانيتها السنوية إلى ربع مليار دولار، والفضائية الواحدة التي تجمع كل التخصصات قد تتجاوز ميزانيتها مائة مليون دولار في العام.
ويعود سبب ارتفاع ميزانية الفضائيات إلى طبيعة البرامج التي اتخذت شكل العرض والطلب أكثر من كونها برامج ذات قيمة نوعية على المستويين الفكري والفني الجمالي؛ فلقد ارتفعت أجور مقدمي البرامج والمذيعين وبشكل خاص الجانب الأنثوي منه إلى أكثر من عشرين ألف دولار في الشهر حتى دخلت المذيعات ومقدمات البرامج في سوق (المزاد العلني). هذا يذكرنا باقتصاد الفيلم الأمريكي عندما برزت ظاهرة النجوم وبدأت عمليات التفاعل تتصاعد؛ ما أرهق ميزانية الأفلام وصارت أجور النجم السينمائي تعادل ميزانية الفيلم كاملاً وتزيد عليه في بعض الحالات حتى خرج بند أجور الممثلين من بنود الميزانية، ولم يعد يدون في تكلفة الإنتاج القائمة على النسب حيث تبلغ نسبة بند الممثلين 5 في المائة فقط من تكلفة الميزانية كما هو مألوف، ما أدى ذلك إلى خسارات في عالم هوليوود السينمائي؛ نتج عنه بيع أصول كل الأفلام السينمائية إلى شركة سوني اليابانية.
من المعروف أن أية وسيلة إعلامية مقروءة كانت أم مسموعة أم مرئية لا تحقق إيراداً يذكر من مبيعها، الذي لا يغطي جانباً مهماً من تكلفة إنتاجها، وأدوات الإعلام تعتمد على مصدرين من التمويل، الأول الواردات غير المنظورة والثاني الإعلان، وفي بعض البلدان تحصل على دعم من الدولة، دعماً مشروطاً أو غير مشروط، بموجب قانون الإعلام لهذه الدولة أو تلك. ومصادر دعم الفضائيات في منطقة الشرق الأوسط مختلفة، وأهدافها حتى التجارية منها ذات بعد سياسي وبالتالي اقتصادي. ولكن ثمة مسألة غاية في الأهمية تكمن في هدف الحرب غير المعلنة التي تدور في الفضاء قبل أن تنزل واقعياً على الأرض.. هذه الحرب مصدرها الفضائيات في منطقة الشرق الأوسط وخاصة الناطقة منها باللغة العربية.
هناك حرب سياسية وحرب مذهبية وحرب اقتصادية تعلنها القنوات الفضائية.. كل تلك الحروب مخطط لها ويتم دعمها من خلال دعم الفضائيات ورسم سياسة إعلامية لها، وهي حرب خطيرة ستحدد مصير المجتمعات التي تعيش في منطقة الشرق الأوسط، لما للصورة المتحركة المدعمة بالصوت المؤثر من تأثير في عقل وعاطفة المتلقي بشكل علمي فيزيائي وليس بتأثير نفسي محض؛ فقنوات الطرب تستقطب الشباب والجيل الناشئ وتشغلهم بالمراسلات والعلاقات على البار نيوز، وعشاق السياسة وأصحاب هموم المجتمع تقدم لهم الطبخات الجاهزة، والمتمسكون بقيمهم الدينية لهم قنواتهم المتصارعة.. وإلى آخره، والهدف من كل هذه القنوات واستقطاباتها (وصراعاتها) المباشرة وغير المباشرة أنها تعمل على تجهيز مجتمع يتحول إلى لقمة سائغة سهلة الابتلاع، لأن الهدف من كل عمليات الترويض هو الهدف الاقتصادي بسبب ثراء المنطقة العربية أو (منطقة الشرق الأوسط) فالحروب غير المعلنة عسكرياً والمعلنة إعلاميا وفضائياً على وجه التحديد، ستقود المجتمعات العربية والإسلامية إلى شكل من أشكال المجتمعات الخاوية التي يلغى منها التأريخ وتمسح أو تمسخ القيم التراثية، وتمسخ أو تمسح الهوية؛ فتصبح الشخصية العربية شخصية بلا ملامح بلا تأريخ بلا قيم بلا إرث روحي أو مادي. عندها تسخر الموارد الاقتصادية الهائلة لصالح الجهات الداعمة للفضائيات والتي تصبح مبالغ الدعم المقدمة لا تشكل رقماً يذكر مهما بلغ حجم الدعم ومهما بولغ فيه قياساً بالنتائج المتمثلة في نهب ثروات المنطقة.
إذا كان ثمة هدف في عملية دعم اقتصاد الفضائيات في المنطقة العربية، ولأهداف سياسية اقتصادية بعيدة المدى، فما الهدف من دعم قنوات فضائية عربية ذات أبعاد محلية؟ بمعنى أن تتأسس قناة فضائية عربية وتفرخ قناة خاصة بالطرب والغناء بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وبتأثير من شكل ومضمون الطرب والإيقاع والأغنية في الغرب، وفي ذات الوقت تنشأ قناة دينية متخصصة تقوم بعملية تثقيف دينية للمجتمع في داخل الدولة وخارجها، فهل أن شعار (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) هو الشعار الإعلامي المعمول به!؟ وهل تلغي القناة الدينية المتخصصة الخراب الذي تفعله قناة الطرب؟! الحديث لا يزال عن اقتصاد الفضائيات في منطقة الشرق الأوسط عربياً وإسلامياً، لأن شكل المجتمع ووعي الرؤية إليه ينشئان رصانة المجتمع وقوته الاقتصادية، وتسطيح المجتمع عبر وسائل إعلامه، السلاح الحديث والخطير، هو عملية تهديم الطاقة الإنتاجية لذلك المجتمع وتقديمه باقتصاده على طبق جاهز للغير.
لعبة الفضائيات وازدحامها على سطوح الأقمار الاصطناعية بإيجار يتجاوز نصف مليون دولار سنوياً وبذخ الأموال الطائلة على برامج توحي بأنها لا تدرّ مردوداً؛ لأنها ليست بضاعة مادية تطرح في الأسواق ويتم تداولها وتخضع لفائض القيمة، لكنها على المدى المنظور تحقق هدفاً اقتصادياً يتعلق بنهب ثروات البلد بعد تفريغه من قدرة المجابهة وتعميم اللامبالاة بديلاً عن المسؤولية التأريخية والوطنية والمستقبلية.
وعلى مستوى الدورة الاقتصادية وحركة المال فإن الفضائيات تتكون من المعدات التقنية وهي مواد تصنع في الغرب وتستورد منه، والأشرطة المستعملة تصنع في الغرب، والصعود على الأقمار الاصطناعية يستأجر من الأقمار التي يطلقها أو يشرف عليها الغرب، والبرامج الجاهزة من الأفلام العلمية والكرتون والأفلام الأجنبية كلها تشترى من الغرب، يضاف إلى ذلك شراء حقوق البرامج الكبيرة مثل (من يربح المليون؟ أو وزنك ذهب، والبرامج المثيلة) فإن حقوقها ومخرجيها ومنفذيها وتصميم حركة الكاميرا ونسبة كبيرة من الأسئلة المقدمة كلها تصل من الغرب مدفوعة الثمن. هذا يعني أن الدورة الاقتصادية للفضائيات العربية تصب في الاقتصاد المهاجر وتشكل البرامج العربية من ميزانية الفضائيات نسبة لا تزيد على 30 في المائة، فشراء مسلسل درامي عربي على سبيل المثال يباع للفضائية العربية كعرض أول بحدود ثلاثة آلاف دولار للحلقة وللعروض الثانية بسعر ألف دولار للحلقة على أمل أن يعرض في مائة فضائية عربية أو لعشر فضائيات عربية أو لفضائية واحدة حصراً. المسلسل الأمريكي أو الأوروبي تباع الحلقة الواحدة ذات الخمس وأربعين دقيقة بخمسة وأربعين ألفاً من الدولارات، والبلدان الأوروبية التي تشتري مثل هذه المسلسلات فلأنها تعرضها بلغتها وليست بلغة المسلسل الأصلية كأن تكون الإنجليزية فهو يعرض في ألمانيا مدبلجاً باللغة الألمانية وفي الدنمارك باللغة الدنماركية وهكذا، بعكس المسلسل العربي الذي يعرض في كل القنوات الفضائية العربية بلغته العربية أو لهجته المحلية.. فما الضرورة لأن يعرض المسلسل العربي في أكثر من قناة فضائية طالما هو ناطق بلغة يتحدث بها العرب أجمعون، ويستطيع كل الناطقين باللغة العربية مشاهدته من قناة واحدة؟! في مثل هذه الحالة فإن الشركات المنتجة للبرامج الدرامية العربية تغطي على مخاوف مستوى الشكل والمضمون للمسلسل بأسماء نجوم السينما والتلفزيون العربي، وفي حال عزفت المحطات عن شراء مسلسل ما فإن الشركة المنتجة تتعرض للانهيار، وربما بسبب مسلسل واحد ارتفعت ميزانية بارتفاع أسعار النجوم.
في كل العملية الاقتصادية التي تحرك الفضائيات العربية تنحسر نسبة البرامج الثقافية والاجتماعية الجادة وتبرز برامج الإثارة بكل أنواعها والمتمثلة في المنوعات وازدهار ثقافة كرة القدم والبرامج السياسية القائمة على فكرة الاستفزاز.
الجمهور العربي بسبب طبيعة الواقع السياسي عموماً وطبيعة الحياة الاجتماعية التي هي انعكاس للواقع السياسي والمشكلات المستجدة في كثير من المناطق العربية فضل الركون إلى البيت، وظهرت فكرة (سينما البيت) التي توفر للعائلة فرصة المشاهدة على شاشة عريضة ولكن بانعدام حرية المشاهدة القائمة على حرية التركيز وسط الظلام وحرية الاختيار للفيلم السينمائي في طقوس المشاهدة الاجتماعية والصمت أمام عالم سحري يتحرك على شاشة بيضاء يسقط عليها الضوء من مسافات بعيدة بعكس سينما البيت التي يسقط الضوء من الشاشة على عين المشاهد ومن مسافة قريبة يبقى فيها المتلقي يعبث بين أكثر من مائة وعشرين فضائية تزدحم بثقافات سهلة سوف تترك جيلاً قادماً غير قادر على الفعل. مطلوب عقد مؤتمر تتبناه دولة تريد لشعبها ولأمتها الانتباه حتى تستطيع تحديد أو رسم مسارات المستقبل.
اقتصاد الفضائيات العربية هو اقتصاد مهاجر خارج حدود الأوطان يترك آثاراً غير حميدة داخلها على المستويين الفكري والفني الجمالي! ولعل تدني المستوى الجمالي للبرامج بكل أنواعها يشكل خطورة أكثر من خطورة تدني المستوى الفكري لتلك البرامج، لأن تكريس قيم جمالية متدنية يسهم في تكوين شخصية غير قادرة على تشخيص الظاهرة الاجتماعية والسياسية، فعبادة الفرد على سبيل المثال وقبول فكرة الدكتاتور في المجتمع وأحياناً حد الإعجاب يتأتى من تدني المستوى الجمالي عند الفرد والمجتمع بسبب تلقي قيم جمالية من العملية الإعلامية التي يلعب الاقتصاد دوراً مهماً في تكريسها في وجدان المتلقي.


* مخرج سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved