الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 20th March,2006 العدد : 145

الأثنين 20 ,صفر 1427

قراءة في ملف الثقافية (زمن درويش)
* ميشل كيلو:
ليس في كل ما كتبه الأدباء والشعراء والنقاد عن محمود درويش كلمة واحدة غير صحيحة، وفي الوقت نفسه، ليس في كل ما كتبه هؤلاء نصاً واحداً استطاع أن يفيه حقه، ليس لأن النصوص غير مهمة، بل لأن الشاعر أكبر من أي نص، وسيبقى إلى زمن بعيد على الأرجح خارج أي نص، عصياً على الكتابة، مع أنه جعلنا في كل ما كتبه ندرك كم يمكن أن تكون الكتابة غنية وملهمة ورائعة.
لا يزعم هذا النص أنه سيحقق ما عجز غيره عنه، في المقالات المهمة التي كتبها نزيه أبو عفش، وعادل محمود، ومحمد علي شمس الدين، وعباس بيضون وجواد الأسدي وغيرهم. إنه يعلن بدوره عجزه عن تخطي العجز، ويزعم أن نص محمود الشعري محرج، لأنه لا يقتصر على عدد معين من الكلمات يحتل مساحة معينة في قصائده.
يبدأ نص محمود كأي نص آخر: بكلام يقوله هو الشعر. إلا أنه يفقد صلته بقائله، ليصير ملك من يتلقاه ويجد نفسه نزاعاً إلى الاستيلاء عليه كما لو كان نصه الشخصي الخاص الذي يريد الاستئثار به والاحتفاظ به ككنز مكنون يخصه وحده، رغم شعوره بأنه مجرد مؤلف واحد له من ملايين المؤلفين الذين تنتابهم الرغبة ذاتها في الاستيلاء عليه التماهي معه، ويتمنون حقاً لو كانوا مبدعيه، على أنهم لا يريدون له أن يفقد السوية الإبداعية الرفيعة التي سكبها فيه مبدعه، لشعورهم أن هذا سيسلبهم القدرة على رؤية أنفسهم بدلالته، ما دامت قراءته قد أيقظت عندهم الرغبة في تملكه، بما هو نص شخصي أبدعه آخر، تتجسد في شعره أشعار الناس جميعاً، المكتوب منها وغير المكتوب، المنطوق منها والمسكوت عنه.
ليس شعر محمود، بهذا المعنى، نصاً أبدعه فرد وحسب، إنه أيضاً طريقة الناس في التفاعل مع أنفسهم ومع الواقع ومعه، وهي جميعها نصوص يستند محمود إليها، يستوحي أجواءها، يعيد كل واحد تأليف ذاته على هواها في نص الشاعر، مع أنه يحرص عليه في صورته الأصلية، لعلمه أنه تصعب مجاراته أو محاكاته، وأنه ليس نصاً برانياً تقوله كلمات، بل هو واقع وتاريخ يقولان ذاتهما في لحظة مفعمة بآمال ومشاعر وهزائم وانتصارات وموت وولادة، تفصح عن ذاتها بدورها بقلم شاعر يعرف كيف يجعلها نصاً ترى ذاتها فيه.
ثمة لكل نص بعد يتخطاه، بل إن أهمية النص تقاس ببعده الذي يتخطاه، بما يحدث بعد قراءته، ويكون ملك قارئه بقدر ما يعبر عنه.
غير أن نص محمود لا يترك لنصه أن يكون ملك أحد غيره، لسبب بسيط هو أنه ينجح دوماً في جعل متلقيه ملكاً له، ويعرف، بطريقة يتقنها هو وحده بين المبدعين، كيف يبقي عليه نصاً خاصاً به، مع أنه يوحي لقرائه أنه صار لهم، وأن حياتهم تجددت واغتنت وارتقت به، لأنه يريهم أنفسهم وما هو مألوف وعادي وعابر في حياتهم كما لم يروها من قبل، في حين تخترق كلماته تاريخهم وراهنهم، وتسبقهم إلى مستقبلهم، فيخترق التاريخ والراهن والمستقبل أرواحهم التي تفيض عندئذ بغبطة الرجاء في زمن اليأس، والحضور في عصر غياب عام وشخصي.
يحدث هذا، لأن نص محمود لا يداهن ولا يجامل، لا يسطح ولا يبسط، ولا يقفز عن شيء أو يتجاهل شيئاً، كما لا يتنازل عن مفردة واحدة من أجل أحد أو شيء، ويعيش ذاته باعتباره وجود البشر والكلمات والأشياء الوحيد الحقيقي، فهو لا يخشى شيئاً ولا يتجنب شيئاً، ولا يحجم عن تسمية الأشياء بأسمائها، لذلك تراه يقول ما نقوله جميعاً، غير أنه يقوله بكيفية فريدة ومعجزة ترغمنا على أن نرى فيه أنفسنا ونعتبره ناطقاً باسمنا، يعرف ما نشعر به ونفكر فيه ونتطلع إليه، دون أن يسخر من سذاجتنا وآلامنا أو يشعرنا أننا لا نقاسمه عبقريته.
لا تعرف وأنت تقرأ شعر محمود إن كنت تتعامل مع مبدع يستخدم ما تستخدمه أنت من مفردات وأفكار، فأنت ما إن تقرأ كتاباته حتى تدرك أن الكلمة أغنى من ذاتها، والفكرة أوسع من مدلولاتها، والنص أكبر من زمانه، ومن أحداثه وحتى رموزه، وأن واقعك ذاته يمكن أن يتحول إلى نص شعري، رغم قسوته وآلامه، وأن النص أغنى منه، رغم أنه من احتمالاته. لا يفي أي نص محمود حقه غير نصه الخاص الذي لا يشبه نص سواه، ويتخطى ذاته من قصيدة لأخرى. لنقرأ محمود درويش ولنستمتع بفضيلة الصمت، ولندعه يتحدث وحده!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved