الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 20th March,2006 العدد : 145

الأثنين 20 ,صفر 1427

يوم الصعدة..
* نوف الحزامي :
انطلقت أجري في الطريق الترابي وطفلتي تصيح..
كنتُ أجري بسرعة والغبارُ يكسو أطراف عباءتي الطويلة.. الطريق مليءٌ بالأحجار الصغيرة الحادة التي جرّحت أقدامي الحافية حتى أدمتها..
نورة ثقيلة.. ولم أتركها تمشي حتى لا تؤخرني..
يزداد صياحها.. تريدُ النزول من على كتفي لكني أمسكها بقوة وأنطلق بسرعة.. أنا خائفة..
تعودُ لمخيلتي صورهُ سعيد.. أحدُ خدم بيت عمتي وهو يرتجف..
- بسرعة يا عمتي منيرة.. الحقي.. بسرعة.. عمي هلال (طاح) من البعير (وتعوّر).. الحقي عليه..
حملتُ طفلتي وأسرعت.. لم أعبأ بكوني لم أستأذن من أبو محمد.. عم أبنائي.. وهو وليي بعد وفاة زوجي.. أعرفُ جيداً أنه قد يجعل من هذا موضوعاً كبيراً.. سيسببُ المشاكل.. قد يهددُ بطردي من بيتِ الحمولة.. لكني لن أعبأ..
فهذا أخي الصغيرُ اليتيم.. كنتُ أمه وأباه بعد وفاة والدي..
***
- إن شاء الله.. إذا رزقني الله يا منيرة.. وصار عندي بيت.. سآتي بك أنت وأطفالك عندي لخلصكم من الذل الذي تعيشون فيه.. كنتُ أحاول أخفاء دموعي وأنا أقول..
- أيُ ذلٍ يا هلال؟.. الحمدلله أنا لا أعيش أي شيء من ذلك.. لكن أنت تعرف.. مشاكلُ النساء في البيتِ الواحدِ لا تنتهي..
- هل تعتقدين أني لا أرى الحزنَ في عيون أطفالك وهم يزدادونَ ضعفاً يوماً بعد آخر..
- أيُ حزن وضعف..؟ أنت تتوهم..
كنتُ أحاول أن أقنعه أني أعيشُ حياةً سعيدة مع أعمام أبنائي وزوجاتهم.. وأني لا أعاني من أي قصور.. لكن دموعي كانت تفضحني.. وكذلك أحاديث صغاري الأربعة عن جوعهم الدائم..
***
- أففف.. لا إله إلا الله.. اسكتي يا بنيتي.. خلاص وصلنا..
كانت نورة ذاتُ العامين ثقيلة.. وأخذت تركلني طوال الطريق لتنزل عن كتفي وأنا أقاومُها لاستعجالي..
دقاتُ قلبي تزداد تسارعاً..
يتراءى لي خيالُ أخي الحبيبُ الذي لم يجاوز العشرين..
أحاولُ إقناع نفسي بأنه قوي البنية.. ولن يتأثر بسقطته إن شاء الله.. لا بد وأنها مجردُ رضوض.. نعم.. فقط رضوض بسيطة.. وسيستعيدُ عافيته بإذن الله..
سأبيع الإسوارة الوحيدة المتبقية لي وأذبحُ ذبيحة وأوزعها على الفقراء حمداً لله على سلامته..
نعم.. هلال لن يموتَ بإذن الله.. هلال لازال شاباً قوياً.. سيتعافى.. ويشتري بيتاً صغيراً.. ويأخذني مع أطفالي لنعيش معه..
تراءت لي أطيافُ كثيرة في ذلك الطريق الضيق.. والشمسُ تحرقني وتلسعُ وجه طفلتي الذي استحال أحمر.. أبي.. أمي.. زوجي.. كلهم رحلوا وتركوني.. وها أنا أجري لأرى أخي الوحيد.. وليس معي سند.. أسيرُ مفجوعة وحدي..
***
يمرُ بائعُ (حساوي) مع عربته التي يجرها حمار.. نظرت ابنتي إلى العربة.. وصاحت بفرح وكأنها اكتشفت شيئاً عظيماً..
تملة.. تملة.. يمه.. تملة!
أسرعتُ أجري مبتعدة.. توقف الرجل بطيبة ليعطينا.. وقد شعر بالعطف على ابنتي.. لكني أسرعتُ هاربة.. لا أعرف ماذا سيكون مصيري لو رآني أحد آخذُ صدقة من غريب.. والأنكى لو عرف عمُ العيال أبو محمد.. لذا أسرعت.. وصغيرتي الجائعة لا تزالُ تصيح.. - يمه والله أبي تملة..
***
فجأة.. سمعت أصواتاً وجلبة.. جموعُ من الرجال آتية من أمامي.. في نفس الطريق.. يا إلهي!.. ماذا أفعل؟.. أين أذهب؟.. الطريقُ ضيق.. يا رب.. لو رآني أبو محمد لسلخني كما تسلخ النعاج..
ضغطتُ على ابنتي بقوة ونظرتُ حولي.. فلم أرَ سوى (صعدةٍ) صغيرة بين بيتين.. كومة من التراب المرتفع المليء بالأحجار الحادة.. أسرعتُ أصعدُ عليها حتى يمرُ موكبُ الرجال..
كنتُ أدوسُ على عباءتي وأنا أصعد بسرعة فتتمزق.. والبنتُ ترفسني تريدُ النزول.. وأقدامي تحترقُ فوقَ الصخور.. حاولتُ أن أتوازن حتى وصلتُ للأعلى.. تنفستُ الصعداء.. ووقفتُ أنظرُ إليهم.. يا ترى.. ما الذي أتى بهذه الجموع إلى هنا..؟
نظرتُ.. كان الجميعُ متأثرين.. يرددون (لاحول ولا قوة إلا بالله).. (اطلبوا له الرحمة)..
انقبضَ قلبي بشدة.. شعرتُ به يقفزُ خارجَ أضلعي..
نظرتُ جيداً وأنا ارتجف.. رأيتُه بينهم.. محمولا..
شماغُه قد رُبط حولَ فكه وثوبُه الأصفرُ المهترئ قد صُبغَ بالدم..
صرختُ بلا شُعور.. كانت الدنيا تدورُ بي..
لم أستطع أن أقتنع بفكرة أن أفقده وهو في عز شبابه..
أخي الحبيب.. آخرُ من تبقى لي..
دارتْ بي الدنيا.. ولم أعد أسمعُ سوى صراخ ابنتي.. وأنا ارتطمُ بالصخور..
***
كنت أسمعُ أصوات الناس حولي.. وهم يصرخون.. (البنت.. البنت).. التفَّ حولي الرجال ونادوا على بعض النساء والإماء..
حملوني.. أول ما فكرت به حينها.. أن أبو محمد سيقتلني.. فارتجفتُ هلعاً.. حاولت بما تبقى من قوتي أن أمسك عباءتي حتى لا ينكشف مني شيء.. لكن يدي لم تساعدني.. ثم رحت في إغفاءة غريبة.. كنتُ شبه واعية شبه غائبة..
أخذوني عند امرأةٍ من البادية..
وضعوني على فراش.. فتحتُ عيني بصعوبة.. فإذا بابنتي قريبة وهي ساكتة تماماً.. لم تعد تصيح .. ولا تريد تمرة..
لا أعرفُ لماذا.. لم أبكِ في تلكَ اللحظة.. كنتُ أشعرً بالشلل يجتاحُ عقلي ومشاعري.. أغمضتُ عيني..
قالت المرأة..
- لا حول ولا قوة إلا بالله..
وصمتت قليلاً..
- اندقت رقبتها.. سلمت الروح.. تعالوا خذوها قبل لا تشوفها أمها..
سمعتُها تقولُ ذلك.. فأتت بعضُ النساء وحملن ابنتي.. كن يعتقدن أني في إغماءة.. وأني لا أسمع..
فتحتُ عيني وهم ينظرون إلي.. بقيت صامتة.. وهم لا يعرفون أني أبكي بصمت..
ضمدوني وأسقوني بعض الأشربة المرة وأنا مستسلمة تماماً..
بقيتُ أبكي بقلبي.. فالحزنُ لم يكن قادراً على الخروج بعد.. والجميعُ مستغربُ من صمتي..
تتعاركُ في ذهني صورةُ أخي الفقيد.. وصرخة طفلتي الأخيرة.. لا أدري أيهما كانت أكثرُ ألماً..
أخيراً.. دخلت عمتي.. وأقبلت مسرعة.. أسندتني إلى صدرها.. مررت يدها على شعري.. وأخذت تقرأ علي.. حينها فقط.. بدأتُ أبكي..
***
هل تعرفين يا ابنتي ماذا فعلت بعد ثلاث ليال فقط من وفاة أخي وابنتي الصغرى؟..
لقد أمرتني عمتي بأن أضع الحناء في يدي.. تخيلي!..
وضعتُ الحناء ومشطتُ شعري.. وأخذتُ أصلي حتى سلا قلبي..
إنكم تقولون.. أيُ قلوب كانت جداتُنا تملكها.. وأنا أقول.. قلوبنا لم تكن قاسية.. كنا نتألم.. وننزُفُ الدمعَ دماً.. هو فقط شظفُ العيش الذي علمنا كيف نكونُ أقوياء.. ولا نتوقف عند الآلام... حتى لو كانت.. مثلَ آلام يوم (الصعدة)..
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved