الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th June,2005 العدد : 111

الأثنين 13 ,جمادى الاولى 1426

العجيلي يكتب عن الملف
أسمى التكريم.. كلمة (12)

أرجو أن يعذرني قرَّائي إذا رأوني أتابع الكلام عن شخصي فيما أكتبه لهم، وبصورة خاصة في زاوية هذا اليوم. دافعي إلى متابعة اليوم هو ما تفضَّلت به عليَّ رئاسة تحرير المجلة الثقافية، أعني ملحق جريدة (الجزيرة) الغراء، من تكريم بإصدارها منذ أسابيع قليلة ملفاً خاصاً عني، طلب مني الأستاذ عبد الكريم العفنان، وهو المكلف بملاحقتي في هذا الموضوع، صوراً لي متعددة ومتنوعة، فسألته: لماذا؟ فأجابني أن ملفاً أُعدَّ عني في المجلة الثقافية، وأن الصور هي لهذا الملف. فوجئتُ بما قاله وسألته: أما كان عليك أن تخبرني قبل الإعداد عن نيتكم به؟ ضحك لسؤالي وقال: كنت بلا شك ستدعونا إلى صرف النظر عن مشروعنا.. أعرف جيداً طبعك في هذه الأمور!
والواقع أن قصارى ما أطمح إليه من قرائي هو أن يطلعوا على ما أعبر عنه من أحاسيسي وأفكاري في كتاباتي، وأن يرضوا عنه، غير طامع منهم في حسن تقدير أو تكريم. أقول لمن يعرض علي القبول بتظاهرات تشهرني أو تزيد من التعريف بي: إني، بإقامتي في بلدتي الرقة، أبعد مسافة ستمائة كيلو متر عن عاصمة بلادي هرباً من هذا التظاهرات، ومع ذلك فإني لا أُعدم من كرام المشرفين على منابر الثقافة في العديد من مواطننا العربية مَن يجدني أهلاً لتقدير كالذي قامت به (الجزيرة) الغراء على صفحات ملحقها الثقافي، مستكتبة أقلاماً أدبية لها شهرتها وقدرتها الواسعتان عن نتاجي الأدبي وعن شخصي.
طبعي الذي قال الأستاذ عبد الكريم العفنان إنه يعرفه ينفِّرني في الحقيقة من زيادة التعريف بي ومن الإشارة إليَّ بالأصابع، وهذا ما جعلني أبدأ حياتي الأدبية بالكتابة بأسماء مستعارة، ولسنين طويلة. أحصى أحد الدارسين الأسماء المستعارة التي كتبتُ بها ما بين عامي 1936 و1972م فوجدها بلغت اثنين وعشرين اسماً!.. ثم أصبح لي اسمي الصريح والشهير. لا أحد يكره الشهرة إذا كانت في مجالات الخير، ولكني قد أغتبط بتكريم تعبر عنه كلمة هامسة أكثر بكثير من اغتباطي مما هو له طنين ورنين، وأحب أن أروي للقارئ، في هذا المقال وفي الذي يتلوه، كلمات أرضتني عن نفسي على إيجازها واختصارها، بما تضمَّنته من معانٍ، وما أثارته من ذكريات.
عاد الشيخ إبراهيم إلى البلدة، بلدتنا، بعد أعوام طويلة قضاها يعمل في المملكة العربية السعودية، زارني وهو يحمل لي هدية، راديو ترانزستور صغيراً ذا قيمة. من عادتي ألاَّ أقبل هدية من أحد إلا في ظروف معينة، قلت له: لماذا كلفت نفسك يا شيخ إبراهيم هذه الهدية النفيسة؟
ابتسم وقال هذه الجملة:
كأنك نسيتَ أنك ولَّدتني.
وتذكرتُ.. لم أنسَ الأمر نسياناً تاماً، ولكنه كان غائباً عن ذهني في ذلك الحين، نعم لقد ولَّدت إبراهيم، ولم يكن آنذاك الشيخ إبراهيم، كان جنيناً في رحم أمه ويأبى أن يخرج منه ليتنفس هواء الدنيا التي نحيا فيها، أمه كانت مصابة بتشويه في بنيتها، باحديداب في فقرات ظهرها، كان يجب ألاَّ تحبل؛ لأن ولادتها لن تكون طبيعية أو ممكنة كما هو الأمر عند الصحيحات من النساء. إلا أن المحذور وقع، وتلك الأم الحدباء هي الآن في طلق متوقف، عليَّ أن أقوم بواجبي تجاهه.
لم يكن في بلدتنا في تلك الأيام أطباء إلا أنا وزميلان آخران، ما منهما مَن هو مؤهل لإنقاذ المعسرة في طلقها الأليم، طلق خطر على حياتها وعلى حياة المخلوق الذي تحمله في بطنها. وكان عليَّ، كما قلتُ، أن أقوم تجاهه بما ينفيه عن الأم وجنينها. كان علي أن أقوم بتطبيق ملقط الجنين على تلك الأم في ظروف بائسة في بلدتي، من حيث الاستعدادات الصحية وتوفر الأجهزة والمعاونين، ولكن الله كان معنا ومع الأم البائسة ووليدها، فولد إبراهيم صحيحاً، ونجت أمه من خطر الموت ومن خطر العقابيل المشوهة والمعيقة.
غير أن سوء الحظ لاحق أم إبراهيم حين وقع المحذور بعد نحو من سنتين مرة أخرى، ولم تجد في البلدة مَن يعينها في النجاة من خطره، كنتُ أنا في أحد أسفاري الأوروبية في ذلك الزمن، وانتهى المحذور بموتها وجنينها معاً، على أن والد إبراهيم، وكان مؤذن الجامع الكبير في البلدة وكان ضريراً، ظل يحمد الله على أن رزقه بإبراهيم وحفظه له.
نعم.. وهل نسيتَ أنك ولَّدتني؟
قبلتُ الهدية على خلاف عادتي من رفض الهدايا عن أعمالي الطبية، فقد شعرتُ أني أستحقها، وما جعلني أقبلها هو لهجة الشيخ إبراهيم وقد أصبح ذا لحية خطَّها الشيب، وحمل وجهه من التجاعيد أكثر ما حمل وجهي، لهجته وهو يلقي عليَّ سؤاله، فقد حمل ذلك السؤال إلى نفسي برد الرضا، إنه تكريم سامٍ لي، تلقَّيْتُه بقليل من الكلمات، وبعد عدة عقود من السنين، هادئاً، لا تخالطه منة، ولا يرافقه رنين أو ضجة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved