الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th June,2005 العدد : 111

الأثنين 13 ,جمادى الاولى 1426

صدى الإبداع
ما هكذا يُكتب الشعر
د. سلطان القحطاني

(4)
لقد قلت في مقال سابق إن المشكلة ليست فيمن يقول الشعر أو يكتب الشعر، فسواء كتب الشعر أو غني أو قيل، المشكلة فيمن يتذوق الشعر، بل الكلام الموزون الجميل، ولعل ذلك ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته بالسحر، وهو السحر الحلال طبعا . وقد اتهم البعض الاستاذ العبادي كما اتهم غيره من قبل وسيُتهم من بعده، فالمكابرون الذين يكتبون كلاما لا يليق بالشعر ولا بالنثر كثير في هذا الزمن وغيره، وما وردنا من التراث قد اجتهد فيه الشراع والمحققون وعانوا في سبيله عنتا من بعض المبدعين وأشباه وأضداد المبدعين، ولا ننكر جهود هؤلاء الرجال الذين صمدوا أمام تلك الدعاوى الباطلة، وفي النهاية ثبت الحق في نصابه، بين الناقد والمنقود، وما دام الباحث يبني آراءه على أسس علمية فلا خوف عليه من صوت ناعق هنا وآخر هناك. وقد حاول العبادي إصلاح ما فسد من الشعر نتيجة ضعف في موهبة قائله من ناحية، وقلة مران أذن القائل على سماع البيان الجيد شبه المفقود في وسائلنا المرئية والمسموعة اليوم، إضافة إلى قلة وضعف ما يقدم للطلاب في المناهج الدراسية وانشغال الشباب بسماع الكلمة الضعيفة والألحان النشاز من المغنين.. وغير ذلك من ساقط القول ومهمله. والاجتهادات قد تصيب وتخطئ، فخطيب مسجد في الطائف كان عليه أن يراجع شواهده قبل إلقائها على مسامع الحاضرين، منهم من هو في درجة العبادي، قد يلقطون الكلمة من فم قائلها بالإحساس الفني الذي تعودت عليه آذانهم من الصغر، ونمته قراءاتهم المتعددة على مر العقود، وما كان خطأ ذلك الخطيب ليظهر لولا وجود واحد من هؤلاء، ترجمته أذنه قبل ذهنه، أي قبل أن يعود إلى القواعد العلمية العروضية، فقد قال:
(ربٌّ تبول الثعلبان برأسه
لقد ذل من بالت عليه الثعالب)
وقد حاول العبادي أن يصلح ذوق ذلك الخطيب، قليل البضاعة بالطبع، ولكنه كمن داوى جرحا (رُمّ على فساد)، وعندما قرأت البيت حتى بعد إصلاح ما فسد منه عروضيا وحتى معنى وجدت البيت على فساده، وأنا ليس لي باع في النقد العروضي، فأستعين بما بقي لي من ذائقة. فالبيت فيه استفهام إنكاري، لا بد من وروده في أول البيت على قاعدة الاستفهام الأسلوبي، وهو ورود الهمزة في بداية الكلام، بمعنى: أهذا رب تبول الثعالب على رأسه ولا يستطيع الدفاع عن نفسه؟!. والبيت:
(أربٌّ تبول الثعلبان برأسه
لقد ذل من بالت عليه الثعالب) ص111
والشطر الثاني جواب على الاستفهام.
وهناك بعض الأخطاء المطبعية، حصلت في بعض الأبيات التي استشهد بها الناقد، وهي قليلة جدا، على سبيل المثال والحصر بيت أبي تمام المشهور الذي اختلف النقاد عليه، في زمن أبي تمام، ومنهم أبو العميثل، عندما سألوه: لماذا لا تقول ما يفهم؟!
(وهن عوادي يوسف وصواحبه
فعزماً فقدماً أدرك السؤل طالبه)
وردت عند العبادي على غير ما هي في الديوان، أي بدون الواو، على غير وزن (فعولن) المعتاد، وقد فاتت عليه في المراجعة، ولا أظن أن هذه عقبة في كتاب يربو على الأربعمائة صفحة، فما أكثر ما نجد في الكتب الأخرى من أخطاء لا مبرر لها. وإن كان البعض يغضب عندما يصلح حال فنه (غير الأصيل) فإنما هذه ثقافة تعودها الكثير منا تسمى (المجاملة) وهي الثقافة التي أضرت بالفنون وجعلت المبدع يتساوى مع غيره من المقلدين، ولا بأس من حب الثناء فهو تشجيع على العطاء، ولكن ليس كل عطاء يستحق الثناء، وقد يغر الثناء كثيراً من الناس فيتمادى في الخطأ على أنه صواب، أو على الأقل استحسان، وقد غضب مسلم العطوي عندما نقد العبادي قصيدته الهزيلة، ومثله معجب وحمد الزيد والشريف محمد منصور آل عبد الله، الذي قدم لديوانه فاروق شوشة بمقدمة مجاملة مَنْ لم يقرأ الديوان أو أن ذوق شوشة أسوأ من ذوق آل عبد الله.. فقد عودوا على الثناء المطلق، كما نجد في صحافتنا هذه الأيام، مما يسمى بالدراسة المجامِلة (بكسر الميم) فيعرض أحدهم عملا مليئا بالأخطاء، لم يذكر منه خطأ واحد، وبالتالي يظن هذا الروائي المزيف والشاعر المقلد أن عمله بالغ القمة، ورحم الله شوقي عندما قال:
(اتقوا الله في قلوب العذارى
فالعذارى يغرهن الثناء)
ولو أننا تقبلنا النقد النزيه المبني على الأسس العلمية لصلح حال كثير من أدبنا الذي ابتلي بالشللية والتعصب، دون النظر في المضمون الفني والعلمي معا، فنقول: اتقوا الله في الشباب، ولا تحرقوهم بنقدكم المجامل الضعيف، ولكن هناك من الناس من لا يستطيع السكوت عندما يجد الخطأ أمامه، فيقوم بتغييره عن طريق المرتبة الثانية من مراتب الإيمان (بلسانه)، وهناك من يستطيع السكوت ويلزم الصمت إلى حين، وأحيانا إلى الأبد، وقد قال فيلسوف العرب، أبو العلا:
(رأيت سكوتي متجرا فلزمته
إذا لم يفد ربحا فلست بخاسر)
والعبادي من النوع الأول، لم يستطع السكوت على الحال المايل، كما يقول المثل، فدخل في ردود ومدافعات، يعلم أصحابها أنهم في النهاية سيخسرون المعركة، لكن من باب حمية ماء الوجه، أو إهداره مرة واحدة، فما هو المبرر للدفاع عن أخطائهم وهي واضحة؟، ليس هناك أكثر من جواب واحد على فرعين، كل منهما أمَرّ من الآخر، الأول: إما أن يكون جهلا وإصرارا على الجهل، وهذه كارثة ثقافية ليس بعدها من كارثة!، وإما أن تكون مكابرة وادعاء معرفة، وفي كل من الحالين شطط في الرأي وإصرار على الجهل، ورحم الله بشار بن برد، حيث يقول:
(دليل الذكا كثر السؤال وإنما
دليل الغبا كثر السكوت على الجهل)
بل نضيف إلى قول بشار مفردة أخرى لم تكن معروفة في زمنه، وهي (الدفاع عن الجهل).
ويجدر بنا أن نحتفي بكتاب كهذا في علم كادت معالمه الفنية أن تندثر ويندثر معها التراث العربي الأصيل. وقد اجتهد العبادي في إخراجه للجيل الذي يسمع بهذا العلم ولم يدركه بمعانيه وحسه المرهف، وأن ندير النقاش العلمي بحرية الرأي والأسس العلمية، ونجدد في مبناه المتهالك على أيدي المتشاعرين والنظّامين المقلدين، لعل ثقافتنا العربية تعود بثوب جديد.
وقد وعد المؤلف بجزء ثان للكتاب لعلنا نراه في القريب العاجل، وهو جهد مشكور، جاء حصيلة معلومات المؤلف المتراكمة. وقد يتبادر إلى الذهن أن ما قام به المؤلف عرض لقصيدة أو ديوان شعر ظهر ولم يرق للدارس، لكن الأمر مختلف تماما؛ فالمؤلف يسهب في معلومات علمية يصحح بها الكثير من المفاهيم التي تعدت الذوق العربي، وصارت دارجة ممجوجة يتناولها الناس في حياتهم اليومية. وأذكر وأنا في المرحلة الثانوية استنكاري لقول أحد المدرسين بعد هزيمة 1967م.. إنه قال: (أنا كعربي أشعر بالحسرة والعار على ما حصل للأمة الفلسطينية) فقلت: هل هذا التعبير صحيح يا استاذ؟ قال: ما هو الخطأ الذي تراه؟ قلت: أنت قلت (كعربي) وأنت عربي. وليس لكاف التشبيه مكان هنا. ثم قلتَ الأمة الفلسطينية. والفلسطينيون جزء من الأمة العربية. قال: الكاف هنا للتبعيض، يعني أنا واحد من الأمة. أما الأمة الفلسطينية، فأعني بها الأمة العربية. انتهى كلام الاستاذ ولم يقنعني، وعندما شعر بالحرج، قال: يا بني عندما تكبر تعرف أن اللغة العربية واسعة، وليس من تعلمها سيخطئ أحدا. وسألت الدكتور مهدي المخزومي رحمه الله فقال: هذا خطأ فاحش من أخطاء الصحافة وما قلته هو الصحيح. ويقول الدكتور كمال بشر: الكاف زائدة وليست من كلام العرب ولا من ذوقهم. واليوم يناقشها العبادي ويؤكد هذا الكلام الذي مضى عليه أكثر من خمس وثلاثين سنة، عندما كنا طلبة في كلية الآداب جامعة الرياض (الملك سعود حاليا) ص338.
وهذا الكتاب (ما هكذا يُكتب الشعر) له الكثير من الفوائد: أولاً: لم يظهر مرجع بهذه الموسوعية في علم العروض واللغة. ثانياً: لم يتوقف الدارس عند علم العروض فقط، بل تعداه إلى اللغة والنحو والصرف. ثالثاً: تعامل مع النصوص عن طريق الذوق أولا ثم العلم ثانياً. رابعاً: كشف الكثير من الأسماء الموهومة، التي خدع بها الكثير من القراء قليلي البضاعة العلمية. فهو مرجع للدارسين وطلاب العلم، إذا أرادوا الانطلاق من أرضية تراثية عربية أصيلة تمكنهم من الوصول إلى الحديث على قاعدة لغوية فنية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved