الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th June,2005 العدد : 111

الأثنين 13 ,جمادى الاولى 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم 21 (الوصَايَة)
د. عبد الله الفَيْفي
تقدمت الإشارة في المساق الماضي إلى كلام (الجاحظ) السلبي حول النساء، وما ساقه عنهن في كتابه (الحيوان) وكذلك (ابن المقفّع)، الذي استشهدت (موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية)، (الرياض: دار رواح، 1421هـ 2000م)، 43:54 بمعظم قوله السقيم هذا:
(إيّاكَ ومُشاورة النساء، فإنّ رأيهن إلى أفَنِ، وعزمهن إلى وَهنٍ، واكففْ عليهن من أبصارهن بحاجبك إياهن، فإن شدة الحجاب خير لك من الارتياب. وليس خروجهن بأشد من دخول من لا تثق به عليهن، فإن استطعت أن لا يعرفن غيرك، فافعل، ولا تملكن امرأة من الأمر ما جاوز نفسها، فإن ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها، وأدوم لجمالها، وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تَعْدُ بكرامتها نفسها، ولا تُغطها أن تَشْفَعَ عندكَ لغيرها (...) وإياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة منهن إلى السقم.(1)
وحين تعلّق (الموسوعة) على بعض تلك النصوص يأتي تعليقها أحياناً (ضغثاً على إبالة)، كما يقول المثل وليأخذ القارئ مثلاً على هذا من تعليقها على أبيات (طفيل الغنوي) هذه:
إنّ النساءَ كأشجارٍ نبتْنَ معاً
منها المُرارُ وبَعْضُ النَّبْتِ مَأْكُوْلُ
إنّ النساءَ متى يُنْهَيْنَ عن خُلُقٍ
فإنه واجبٌ لابُدَّ مَفْعُوْلُ
لا يَنْصَرِفْنَ لرُشْدٍ إنْ دُعِيْنَ لَهُ
وَهُنّ بَعْدُ مَلائيمٌ مخاذيْلُ
حيث قالت الموسوعة أكثر مما قالته الأبيات، جاعلةً مصدر الفضيلة والأخلاق الحميدة الرجل، إذ ذهبت إلى أن: (المرأة إن أُبْعِدَتْ عن كل سوء في حال حضور الرجل الغَيور عندها، فإنه لن يتمكّن من حمايتها في غيابه، إلا إذا حصّنها بالأخلاق الحميدة، وإذا لم تحصّن بها، فإن أقلّ غيابٍ له عن منزله ولو كان يوماً أو بعض يوم سيكون مجالاً للتنفيس عن رغبة كان حضور الرجل قد أطبق عليها، وترى الفرصة سانحة لفعل ما تريد في غياب الحارس الغيور.)(2)
فأي تنشئة سليمة واستقامة نفسية وذهنية تتوخّاها الموسوعة من سَوْق تلك الشواهد، أو من تعليقاتها تلك؛ إذ كانت في مستكنّ خطابها ك(من أراد أن يكحل عينه فأعماها!)
إن الرجل كما تقول الموسوعة هو (الحارس الغيور)، وكأنه حارس على حيوان لا إنسان، وإنّ من الحيوان للمستأنس، الأمين، الوفيّ، كالكلب، أمّا المرأة ف(أقلّ غياب للرجل عن منزله ولو كان يوماً أو بعض يوم سيكون مجالاً للتنفيس عن رغبة المرأة)، كما جاء في الموسوعة! لأن أدنى غفلة هي كمائة عام، بدليل التناص هنا في عبارة (يوما أو بعض يوم) مع الآية الكريمة: {قَالَ: كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَام} (البقرة: 259).
إن النظرة الاجتماعية العربية إلى المرأة ما تزال مريضة، مبنية على الارتياب دائماً، والاعتقاد أن الأصل في المرأة عدم الكفاءة، وأنها ليست بجديرة بالثقة الاجتماعية، وهي بنية ذهنية موروثة، أباً عن جد، لم تتغير منذ قرون، تعود في جذورها الأولى إلى ما قبل الإسلام حتى لقد أضحت المرأة نفسها اليوم، وفي كثير من الحالات، أول مدافع عن تلك النظرة وذلك الاعتقاد، وإلا كيف يقال إن المرأة تحتاج إلى (الحارس الغيور)، إلا وقد افترض فيها انتفاء الوازع الديني والخلقي، وانعدام القيم الانسانية.. بل افترض أنها بلا عقل ولا روح! مع أن الله تعالى قد حملها مسؤوليتها وحدها، كالرجل تماماً، وكلفها مثل ما حمّلَه من المسؤوليّة، دون اشتراط (حارس غيور) لتحمّلها المسؤولية أو نهوضها بالتكليف، فقال تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (فاطر: 18).
أفما كان أضعف الإيمان يقتضي إن لم تكن من (موسوعة القيم) مبادرة إلى نقد الأفكار والنصوص أن لا تُسهم في تسويق سلع قيميّة فاسدة قديمة؟!
ولئن كانت قيمة (الغيرة) وهي في أصلها قيمة إسلامية وأخلاقية حميدة قد قُدمت في الموسوعة بوجهها الشتيم، الجاهلي لا الإسلامي، و(العاداتي) لا الديني، فإن ذلك الوجه منها هو الذي سيبقى، مع الأسف، لأنه هو الذي سيقع موقعه من النفس العربية، المستجيبة له أصلاً، بقيمها التربوية والاجتماعية. ولن تمحوه بعدئذ أقوال متوارية لشعراء تسوقها الموسوعة، كالشاعر الإسلامي (مسكين الدارمي)(3)
وبالمحصلة، فإن ما أثبت في مجلد (الغيرة) من الموسوعة من ألوان الغيرة على المرأة، لا يخدم هدفاً تربوياً قويماً ما دام غالبه قد جاء تسجيلا لمواقف الغيرة بصورها، التي تعترف (الموسوعة)(4)
بأنها مفرطة في مرضها وتطرفها، نامة على عدم ثقة الرجل نفسه بنفسه.
ثم أليس لقيمة (الغيرة) من وجوه أخرى غير غيرة الرجل على المرأة؟ بل أليس للمرأة بدورها نصيب من الغيرة على نفسها، فضلاً عن الغيرة على الرجل والمجتمع؟! وبأي وجه تظل وصاية الرجل، حتى على أمه، ديدناً، يتعطل معه العقل، وتنحرف الفطرة، وتتخطى وإن باسم الدين أصول التربية الإسلامية السليمة؟!
لقد انصب المجلد الخاص بقيمة (الغيرة) على (غيرة الرجل على المرأة)، دون سواها من أصناف الغيرة كما لا صدى فيه لغيرة المرأة، وإنما كل الحديث يدور عن الغيرة، وأعلامها، وقيمتها، في عالم الرجال بل إنه لينظر إلى غيرة المرأة على الرجل إن حدثت على أنها قيمة سلبية، بعكس غيرة الرجل على المرأة.. وقد مرت في مساق مضى حكاية (هند الهمدانية)، وما صورته تلك الحكاية من إمكانية افتضاح المرأة بفعل غيرتها، حتى لقد جاء في أمثال المولدين: (غيرة المرأة مفتاح طلاقها)، إلى جانب قولهم: (الغيرة من الإيمان)(5)، والمقصود هنا: (إيمان الرجل)، بطبيعة الحال! ولهذا كانت غيرة المرأة تنم عن شعور بالنقص، يصح أن تشبه بالنيران، كتلك القصص التي تقتبسها (موسوعة القيم)(43: 14) بعنوان (أطفئي نيران الغيرة)، فيما لا يمكن أن يقال للرجل وفق هذا النسق القيمي : (أطفئ نار الغيرة)! فإنها في حقه لإحدى الكبر! وكأنما هذه الثقافة إذن تصادر إنسانية المرأة، وتنكر عليها أن تحمل مشاعر تشبه مشاعر الرجل، لتنحدر بها إلى قيم أحط من قيم الحيوان ذلك المخلوق الذي احترم الشاعر العربي وجوده، حتى لقد أنسنه وأجرى على لسانه المحاورة، أليفاً كان أو حتى وحشياً.
وبهذا فإن (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق) تكشف فيما تكشف عن أن جل ما يطرح عادة على أنه قيم عربية وأخلاق إسلامية، إنما يمثل قيماً انحيازية إلى مجتمع الرجال، بصفة خاصة، بحيث يصح القول إنها: قيم ذكورية في منطلقاتها، أعرابية في أهوائها هذا على الرغم مما تؤكده الدراسات من أن المرأة كانت حتى في لحظات التاريخ التحولية وانهيار المجتمعات هي مخزن القيم ومرجعيتها الايجابية، المعاندة لخراب الحياة (6)، في وقت يسعى الرجال فيه بأرجلهم وأيديهم إلى خراب الحياة. كيف لا، والمراة هي (الأم)، منبع القيم، لا بالمعنى الأسري فحسب، ولكن بالمعنى الاجتماعي، والإنساني أيضاً.
إحالات:
(1) ابن قتيبة، (د.ت)، عيون الأخبار، عناية: مفيد قميحة (بيروت: دار الكتب العلمية)، 4: 87
(2) موسوعة القيم 43: 11
(3) انظر: م.ن، 43: 11 12
(4) انظر: 43: 98 99
(5) الميداني: (1955) مجمع الأمثال، تح محمد محيي الدين عبدالحميد (مصر: مطبعة السنة المحمدية)، 2: 67
(6) انظر: كلاب، إلهام، (1994)، (نسق القيم في لبنان)، (مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية)، ع183، ص ص 91 109، 101)


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved