الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th June,2005 العدد : 111

الأثنين 13 ,جمادى الاولى 1426

موسوعة نقد نقد العقل العربي
إشكاليات العقل العربي «4»
د.عبد الرزاق عيد
وتأسيسا على ذلك يبدأ بالتشكيك بمرجعية الجابري لا على مستوى درجة التمثل بل على مستوى التوثيق للشاهد كما مر معنا، حيث يشكك إن كان الجابري قد رجع فعلا إلى كتاب (اللغة والمعرفة) لآدم شاف، وذلك لأن الجابري يقوِّل شاف ما لم يقله، وما لا يمكن منهجيا ومعرفيا أن يقوله كمفكر ماركسي يلتزم بفكرة الوجود الموضوعي للعالم أن يقول: (إن اللغة التي تحدد قدرتنا على الكلام هي نفسها التي تحدد قدرتنا على التفكير)، فواضح أن هذه الأطروحة هي عكس مرام شاف كماركسي ينطلق من نظرية الانعكاس، وهو نفسه الذي يحذر من أن يفهم من قبل أصحاب نظرية الحقل اللغوي وفرضية سابير وورف، كما فهمه الجابري، عندما يستخدم كلمة (تؤثر) محل كلمة (تحدد قدرتنا على التفكير).
وهكذا سيبرهن على أن الجابري لم يعرف هردر إلا عن طريق شاف، وأن القول بأن ليس للإنسان من عالم سوى العالم الذي تقدمه له لغته، هو قول فختوي وليس هردرياً، وفي كل الأحوال فمن الممتنع منطقيا، أن يكون الجابري نصيرا لدعوى تبعية العقل للغته الخاصة، ثم يظل يمارس نقده للعقل العربي باسم العقل الكوني.
يقوم جورج برحلة باهرة في تاريخ علم اللغة من حسن حظ الثقافة العربية ليبرهن أن الجابري لم تتجاوز معارفه لنظريات اللغة هردر وهمبوليت وسابير 1939م أو عند تلميذه في وورف المتوفى 1941م، رغم إعلان الجابري بأنه سيلتزم التصور العلمي في أقصى مراتبه، في حين أنا لن نرى أية إحالة مرجعية للعلماء المعاصرين لا (بنفنست وشومسكي، ولا مارتينه وغاردنر) ولا حتى سوسور أو بلو مفيلد (ص 124) ورغم ذلك فإن الجابري الذي يستند مرجعيا إلى هردر وهمبولت وسابير المقروئين ثلاثتهم بمنظار آدم شاف، فهؤلاء ثمنوا العربية تثمينا عاليا، على عكس النزعة الهجائية التبخيسية التي تحط اللغة العربية إلى مستوى لغة قبيلة بدائية أو اثنية منعزلة كالأسكيمو، وذلك باختزالها إلى مستوى أنها (لغة صحراوية، أي بدوية) فسابير اعتدها مع السنسكريتية والصينية واليونانية واللاتينية والفرنسية واحدة من كبرى (اللغات والينابيع، في العالم)، وهمبولت لم يقارنها مع لغات القبائل الأمريكية الهندية أو لغة الأسكيمو أو أي قوم بدائي آخر، بل مع (اللغة المثالية) التي كانتها في تصوره اللغة السنسكرتية أو اليونانية، أما هردر فقد تحدث عن (معجزة) العربية (الغنية والجميلة) التي خرجت من الصحراء لتقدم بعد (اليونانية) أنبل أداة للفلسفة والعلوم (ص 133) بهذا الروح السجالي يمضي ناقد النقد ليفند أطروحة الجابري حول علاقة (القطيعة) بين جامعي اللغة العربية وواضعي النحو مع (النص) القرآني ليتحداه بأن يأتي بكلمة واحدة من النص القرآني لم يتضمنها (لسان العرب) رغم أن هذا القاموس من صنع ابن منظور (علامة عصر المختصرات والملخصات) وبالإيقاع ذاته يرد على أطروحة (الفقر الحضاري في اللغة العربية الذي يقابله غنى بدوي يتمثل خاصة في المفردات) (فائض في الألفاظ بالنسبة للمعنى) لكن فقط بالنسبة لعالم البدو دون عالم الحضر، يرد على ذلك بأطروحة المستشرقة الرومانية ناديا انغلسكو، بأن النحو ما كان ليولد إلا في الحضارات التي قامت حول نص مقدس (القرآن) أو شبه مقدس (الفيدا) عند الهنود أول حضارة تنتج النحو.
لا شك أن مرافعة طرابيشي تتمتع بكل المواصفات التي تعطيها التماسك والرسوخ وقوة الإقناع، لكن هل كل هذه البراهين المفككة لأطروحة الجابري التي تمنح القارئ العربي المسلم راحة اليقين لثوابت لغته ودينه التي تثبت صلة النحو واللغة بعلوم القرآن، تنفي فكرة الجابري عن الإعرابي مرجع صناعة اللغة العربية؟ ألم ينتج القرآن نفسه لغة هذا الإعرابي الذي كان يتوجه له، ألم يأت بلسان قومه (قرآنا عربيا) محاكيا للغتهم وثقافتهم الأمية، حيث الشريعة أمية حسب الإمام الشاطبي!؟ أليست هي لغة الاعرابي التي أتاح لها الإسلام العسكري والسياسي أن تتفاعل مع الحضارات والثقافات واللغات الأخرى لتتمثلها حضاريا، حيث يكون القرن الرابع الهجري ذروة الإشباع لممكنها الحضاري، إذ بعده لم يعد هناك ثمة اجتراح لأية مأثرة عقلية حضارية عظيمة، إذا استثنينا ابن خلدون، الذي كان في كل الأحوال شاهدا على انحطاطها والراثي الأكبر لزوالها، وابن رشد الذي كان الطريد الأخير لحضارة هرمت ولم تعد قادرة على تحمل شبابه العقلي؟!
ويختم جورج طرابيشي كتابه بفصل أخيرا تحت عنوان (إشكالية البنية اللاشعورية للعقل العربي) حيث يعرض لمجموعة من المفاهيم التي يتداولها خطاب الجابري لينفي صدقية مرجعيتها مثل تعريف (النظام المعرفي في ثقافة ما هو بنيتها اللاشعورية)، يرى جورج أن هذا التعريف الذي يدعي الجابري استيحاءه من فوكو، إنما هو نقيض للدينامية الأبستمية الفوكوية، وذلك عندما يقرأ الجابري تاريخ الثقافة العربية قراءة لا تاريخية، قراءة سكون وركود وموات، بوصفه تاريخ حركة اعتماد لا حركة نقلة، تاريخ (اجترار ثقافي)، ليخلص إلى أن فوكو لم يستخدم تعبير (البنية اللاشعورية) إذ إن هذا التعبير يعود إلى كلود ليفي ستراوس، لكن الجابري يستخدمه بالعكس أيضا، إذ إن مصطلح اللاشعور عند ستراوس يتداول في المجال الأثنولوجي، حيث تناول ثقافات (الشعوب البدائية الثقافة الشفهية)، بينما تاريخ المجتمعات الكتابية يرصدها المؤرخ من خلال التعابير الواعية، في حين أن الجابري أحل ما هو اثنولوجي: (رصد الشروط اللاواعية للحياة الاجتماعية) عند البدائيين، محل الابستمولوجي الذي يرصد تاريخ الوعي للمجتمعات الكتابية، أي (العقل الواعي) للثقافة الإسلامية.
كما أن ناقد النقد سيأخذ على الجابري توظيفه لمفهوم (اللاشعور المعرفي) المنسوبة أبوته إلى جان بياجه، بالمضادة التامة من منظومة الأطروحات التي صنعت الشهرة العالمية لمؤسس السيكولوجيا والابستمولوجيا التكوينتين، ليتهمه بأنه لم يقرأ بياجه قط (297)، بل إن جهله ببياجيه يصفه ب(الفضيحة المعرفية)، وذلك لأن بياجيه لا يرفض فكرة (مفاهيم لا شعورية) فحسب، بل يجعل أيضا من المفاهيم عنوان الفكر الواعي. ص 307
وفي المآل كشف النقاب عن المديونية المفاهيمية الكاذبة للجابري تجاه فوكو وليفي ستراوس وجان بياجيه.
إن الصرامة التي يصطنعها تحليل طرابيشي لعلاقة الجابري بمرجعياته، وتشكيكه بدرجة التزامه بحرفيتها، (حذو النعل على النعل)، تتيح تساؤلا مضادا: ترى أليست انتقائية الجابري هذه وتوفيقيته أو تلفيقيته: أي توليفه بين مفاهيم عدة في خدمة مصفوفته التي يسعى إلى تنضيدها منهجيا ووظيفيا، هي سر موهبة مشروعه وتألقه، بل وما يمكن أن نقول: سر أصالته التي وفرت لمشروعه كل هذا الانتشار والذيوع؟!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved