Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

أستاذ الحِكمة وحِكمة الأستاذ
الحسن بن طلال*

 

 

كلّما ذُكِرَ هذا الشيخ الثّمانينيّ الجليل الأستاذ غسان تويني - أمدّ الله في عمره- تعلو بنا الآفاق نحو الحكمة التي ننشُد، وما أحوجنا الى أنوار الحكمة وعقلانيّتها، فتزداد الآفاق رحابةً، وتشعُّ بنورٍ لا يخبو وهجه، تنجلي بهِ أجمل معاني شرف الكلمة، وأسمى دلالات النُّبل في المواقف، وأبلغ صور تقديس الحرّيّة.

تلك الحكمة التي جُبِلَت بكفاحٍ طويل في غير ميدان من ميادين الوطنيّة والعروبة: الصحافة والثقافة والفكر والبرلمان والسياسة. لقد شاءت أقدار هذا الرَّجُل أن توشِّح رحلته الكفاحيّة بالحزن، لكنّه الحزن الذي يسمو فوق آلام النّفس والوجدان، ويجبّر التّسامي انكسارات الرّوح، الانكسارات التي حلَّت بفقدان الأبناء الواحد تلو الآخر (نائلة، ثم مكرم، وأخيراً استشهاد جبران)؛ والأمضّ انكسارات الأمّة ونكباتها عبر ما يناهز ستين عاماً، بما فيها نكبة العرب في فلسطين 1948، وتوالي حصارات القوى الكبرى وصراعاتها على امتداد الأمة الحضاريّ قبل الجغرافيّ؛ من مشرق عروبتها حتى مغرب أطراف مجدها الأندلسيّ الغابر، وصدمة النّكبة الثانية 1967 وتداعياتها، وضراوة الحرب الأهليّة في لبنان ومراراتها، وما نعيش في حاضرنا من جِراحٍ نازفة في فلسطين والعراق وسواهما من أجزاء الجسد العربيّ المعذَّب.

لكنْ في كلّ ذلك، كانت حكمة شيخنا المؤمن الصابر تزدادُ عنفوانًا؛ فالروح وإنْ أصابها الانكسار حينًا لا تلبث أن تنهض عزيزة تتسامق إيمانًا برسالتها. لقد بقيت قامة الأستاذ غسان تويني شامخةً، عصيّة على خذلان الأيام كما أرز لبنان في أعاليه عصيّ على حلكة الليالي، ولو بأقل ضوء يستمدّه القمر من شمس النّهار.

في صبر هذا الشيخ من شيوخ الحكمة ما يُعجِز، لكنّه الإعجاز الذي لا تأخذنا فيه حيرة، ما استشففنا نقاء الإخلاص في نسغه وصفاء المنبع في تكوينه.

أقول هذا وفي الذّهن صورة من ماضٍ قريب تتماوج أجزاؤها برباطة جأش الرّجال وثباتهم في أشدّ الأوقات حُلكةً؛ في وقتٍ دوَّت فداحة حادثة استشهاد جبران تويني الابن - رحمه الله - بأقسى وقع على النّفوس، ليكون استشهاده كلمة أُخرى من كلمات الأب المكلوم في مضمار التضحية من أجل الحقيقة، الكلمة التي نادت بدفن الأحقاد والأحزان لتتماهى الفجيعة الأبويّة بحكمة صون الأوطان وكرامة الإنسان، وليبقى الإنسان قادراً بإنسانيّته، عاملاً بحكمته وهِبة العقل التي وهبها الخالق جلَّت قدرته، لا بالعنف ولا بالانتقام والمزيد من هدر ماء الكرامات ودماء الأبرياء.

صورةٌ ما تزال وستظلّ أبلغ من أيّ وصفٍ يبتدعه الكُتَّاب والمؤرّخون؛ لأنّ عمادها الإيمان بالكلمة؛ الكلمة التي كانت البدء في عمارة الأرض وأمانة استخلاف الإنسان في مسؤوليّته إزاء الحياة والوجود.

دعواتي للأستاذ الكبير غسان تويني أن يكلأه المولى - عزّ وجلّ - بموفور الصحّة والعافية ويبارك في شيخوخته النّبيلة، فبأمثاله تستمرّ الحياة كريمة بكلّ معنى.

* رئيس منتدى الفكر العربيّ وراعيه سفير الإيسيسكو للحوار بين الثّقافات والحضارات


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة