Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

(أرزة) الإرادة والأمل والحزن
عبدالله مناع*

 

 

كنت كلما أخذتني الطائرة إلى (بيروت) أو مرت بي فوق سمائها.. تدافعت إلى عقلي وقلبي صور ومواقف أولئك اللبنانيين الأفذاذ، الذين عرفتهم ماضياً ب(مواقفهم وآرائهم ورؤاهم الحضارية المبكرة دون أن أراهم).. والذين عشت معهم حاضراً دون أن أقتسم معهم غير خبز المعرفة التي أبدعوها في عشرات اللوحات ومئات الدواوين وآلاف الكتب.. والذين احتسيت معهم كؤوس الحب التي عتّقوها من دنان تلك الأصوات السماوية النفحات والإلهام: من الجبلي (وديع) إلى الساحلي (نصري).. إلى أيقونة الهوى العذري (فيروز)، لتكون (بيروت) بكل هذا الذي عرفته واقتسمته واحتسيته.. هي جنة العرب على الأرض، وهي دنياهم التي يتزاحمون في فنادقها ومقاهيها.. وعلى أرصفتها وميادينها ليتحدثوا ويتناقشوا ويتفقوا أو يختلفوا إلى أبعد حدود الاختلاف، ثم ينصرفوا ضاحكين إلى أمسية من أماسيها الجميلة.. انتظاراً لصباح يوم جديد. هكذا كانت (بيروت) قبل الحرب الأهلية.. وهكذا يجب أن تكون.

ما أجمل (بيروت) وأهلها وبحرها وفسيفساءها الفكرية والسياسية والفنية: من (عبود) بأصالته.. إلى (الأخطل) بعروبته.. إلى (الخوري) و(الصلح) بوقفتهما.. إلى (الحاوي) بصلبانه وتضحيته، التي لم يكن فوقها.. ولا قبلها.. ولا بعدها درب وضرب من ضروب التضحية والفداء.

ف(بيروت) بامتداداتها (الفينيقية) وآفاقها (الفرانكفونية) وجذورها (الشامية).. دنيا من حلم وعسل ولهب، وقد كتب في بطاقة هويتها: المدينة التي بها شارع اسمه (شارل ديغول)، وميدان اسمه (جمال عبدالناصر)، وممر اسمه (الحمراء).. هو في حقيقته جسر يمتد فوق مياه البحر الأبيض المتوسط، ليوصل ما بينها وبين (غرناطة) المجد التليد على الطرف الغربي من البحر، وعندما دهمتها ليالي الحرب السوداء.. كان شاعرها ما يزال يقول:

(إن في بيروت دنيا غير دنيا

الكدح والموت الرهيبِ)**

ورغم أنها تملك هذا القدر المثير من مزيج الطائفية والدينية والعرقية الذي لا تشابهها فيه مدينة أخرى على وجه البسيطة، إلا أنها.. تنام على شموع الأحلام والحب أحياناً، وعلى لهب الحماسة وعصفها في الصدور وفي القلوب أحياناً.. ثم تصحو وفي جبينها عشرات من الأفكار بكل ألوان الطيف.. وهي قادرة دوماً وفي كل الأزمان والأزمات على إخراج رجال غير كل الرجال: رجال في الوطنية والسياسة والقانون.. ورجال في الأدب واللغة والشعر.. ورجال في الإمامة سنية أو شيعية أو مسيحية.. ورجال في الفلسفة والبلاغة والصحافة.. كهذا الرجل الذي كان دافعي الأول لكتابة هذا المقال عن بيروت وعنه، إنه (الأكاديمي) الذي ترك (الفلسفة) والجامعة في هوى الصحافة والسياسة ومجدهما العاصف.. و(السياسي) الذي طغت عليه صحفيته.. و(الصحفي) الذي اغتالت أحلامه ليبراليته ومعسكرات السياسة والسياسيين: الأستاذ غسان جبران تويني.. الوزير لأكثر من وزارة، السفير لأكثر من سفارة.. والصحفي دائماً، حارس صحيفة (النهار) ومجددها وصانع مجدها الذي أخذت تنصب به رؤساء الجمهوريات.. وتنحيهم..!!.

* * * *

كانت بدايته عندما عاد من بعثته إلى جامعة هارفرد عام 48م.. ليتسلم من والده - الذي آثر الاعتزال صحفياً وسياسياً بعد أن تقدم به العمر وأطل شفق المغيب - صحيفة (النهار) التي كانت حينها (محلية الانتشار، عربية اللغة، دولية المحتوى)، ولكنه سرعان ما جعل منها نهاراً عربياً، يعنى بالشأن العربي.. من مشرقه إلى مغربه، ولم يكن في ذلك غريباً على أصوله وجذوره.. وفكر الأرثوذوكس العرب الذي كان يلمع في عقده دعاة القومية العربية الأول منذ عشرينيات القرن الماضي.

فكانت ثمرة ذلك التحول في حياة (النهار) أن أكسبها مساحات جغرافية شاسعة من القراء العرب ربما خارج لبنان بأكثر من داخله، حتى أصبحت وكأنها المنافس عربياً لسعيد فريحة وأنواره.. أو سليم اللوزي وحوادثه.

ثم أخذت تصب نجاحاته الصحفية فكراً ونهجاً.. عبر افتتاحيته الرائعة صباح كل اثنين في وعائه السياسي، ليغدو نائباً عن جبل لبنان في البرلمان، فنائباً لرئيس مجلس النواب في أواخر الخمسينيات (1957م).. فسفيراً إلى الولايات المتحدة الأمريكية في سنة العاصفة التي حملت في صيفها كارثة عام 1967م.. فنائباً لرئيس مجلس الوزراء في أول وزارة يكلف بها صائب سلام في عهد الرئيس فرنجية وهو في الرابعة والثلاثين من عمره المديد.. فسفيراً للبنان في (الأمم المتحدة) بعد أن عصفت رياح الحرب الأهلية بلبنان (1977م) حيث أمضى في تلك السفارة خمس سنوات.. كان من أهم وأبرز إنجازاته فيها لوطنه.. ل(لبنان)، هو استخراجه للقرار 444 القاضي بانسحاب (إسرائيل) من أراضي الجنوب اللبناني التي احتلتها عام (1978م) فوزيراً ثانية للسياحة والنفط، فوزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية، فوزيراً ثالثة.. أو رابعة.. للإعلام.. حتى بدا المشهد السياسي في بيروت.. لمن يرى الصورة من على البعد، كما لو أن لبنان يريد أن يضع غسان تويني في كل مكان، أو أنه يريد أن يكون له أكثر من غسان تويني: اثنان.. ثلاثة.. أربعة.. خمسة.. حتى يضعهم في واجهات المواقع المفصلية الحساسة، واثقاً بقدراتهم.. مطمئناً لحسن قياساتهم وتقديرهم مؤمناً ب(صادق) نواياهم حيث تتلاحم عروبتهم مع أرثوذكسيتهم لتصبحا وجهين لعملة واحدة هي لبنان الواحد إنساناً، فقد كان ذكاء غسان تويني.. نموذجاً، وكانت ثقافته.. حلماً لسعادة المجد، وكان حلمه الدائم وطناً لبنانياً عربياً واحداً ولذلك كان مطلوباً ومرحباً به دائماً.

ف(النهار) لم تكن.. (حيادية) بين الأطراف، وإن بدت لأستاذنا الكبير غسان تويني أنها كذلك.. ولكنها كانت أقرب إلى (الليبرالية) منها إلى سواها في تعدد الأصوات التي تظهر فوق صفحاتها، وفي مقدمتها صوت الأستاذ غسان نفسه الذي سحرني وجذبني كما جذب الكثيرين إليه من مغرب العرب ومشرقهم.. بل وأحسب أنها دفعت ثمن ليبراليتها في السجون والمعتقلات مرة بعد مرة إلى أن اندفع العماد (ميشيل عون) في غوغائية الحرب الأهلية، وما صحبها من انفلات سياسي واغتصاب للسلطات - قبل أن يبدأ عهد (اتفاق الطائف) - إلى حماقة إصدار.. قراره بمنع (النهار) عن الصدور؛ لأنها لم تساند أيديولوجية (القوات اللبنانية) الانفصالية التي كان يتزعمها هو نفسه، إلى جانب (الجميل) و(جعجع) الذي انشقت أرض الحرب الأهلية عنه.. ليتباكى الآن على (الحرية) بعد عودته من سنوات منفاه الخمس عشرة..!!.

ثم دار الزمان دورته.. وتقدمت السنون بهذه الأرزة الفواحة، فرأى في ابنه الأكبر (جبران) وكما رأى فيه والده من قبل.. ما يؤهله لقيادة (النهار).. فسلمها له في مطلع الألفية الثالثة، ولكن الأبناء وكما قال غسان الكبير نفسه حقاً: (ما في ولد بيسمع من بيِّه)، فكان رغم النجاحات التي حققها (الابن) بنقل مبناها إلى ساحة الحرية على الكورنيش.. أكثر حدة وتسرعاً.. وبعداً عن منهج أبيه وأسلوبه ولغته حتى بدت (أيديولوجية النهار) على أيامه كما لو أنها أيديولوجية (القوات اللبنانية)، التي لم يقبل بها الأستاذ غسان يوماً أو يبارك توجهها الانعزالي.. فضلاً أن يضع يده في يدها، ولكن الوقت لم يمهل الوالد (غسان).. لتعديل اندفاعات الابن (جبران)، وحماسه.. وإحساسه في أن تكون له تجربته الصحفية والسياسية المستقلة، خصوصاً بعد أن غدا عضواً في البرلمان وهو ما أعطاه يقيناً مخادعاً بأنه سيكون كأبيه.. وكجده ذات يوم قريب، فقد أصبح - كما كان يعتقد - قاب قوسين أو أدنى من (توزيره).. لكن عجلة التفجير والتدمير المجهولة المعلومة.. كانت له ولأحلامه بالمرصاد، ليفجع فيه (غسان) فجيعته المزلزلة الرابعة: فقد ماتت ابنته (نائلة) وهي في ميعة صباها.. ثم لحقت بها زوجته (ناديا).. فقرة عينه ابنه الثاني (مكرم).. وها هو ابنه البكر (جبران) يلحق بهم.. لتكتمل صورة الملحمة في حياته، وكأنه بطل إغريقي فقد كل أحباله وبقيت له فلاة الأرض والأحلام، ليعيش وحيداً وحيداً تماماً حياة (ميروفنجية) وكأنه (محرم عليه الفرح الكامل) كما قال أحد أصدقائه، ولكنه.. ومع فراغ أيامه من أحبة روحه.. ظل هو هو.. غسان الكبير بعقله.. وبقلبه.. وبوطنيته.. ليقول في حفل الوداع المهيب لابنه في بهو مجلس النواب وبين الدموع وصيحات الثأر: (أطالبكم بالصفح والغفران.. لا بالرد والانتقام)..!!

* * * *

لقد كان (السياسي) في حياة غسان تويني.. يسير جنباً إلى جنب مع (الصحفي) فيه، ولقد لمع (الاثنان) معاً بالتوازي.. فكان أن تبوأ عشرات المناصب السياسية: نيابية أو وزارية.. حتى غدا نائباً لرئيس مجلس النواب، فالوزراء تباعاً.. إلا أن (الديبلوماسية) التي شدته إليها من مدرجات جامعة هارفرد وهو طالب يحضر لدرجة الماجستير في العلوم السياسية، ليلتحق ب(وفد لبنان) إلى الجمعية العمومية إلى الأمم المتحدة في سنة التقسيم 1947م لدعم (الوفد).. بلغته ومواهبه وقدراته المبكرة، و(النجومية) التي كان يتمتع بها الدكتور شارل مالك رئيس الوفد وأبرز وزراء خارجية لبنان.. وضعت في قلب الطالب الشاب غسان تويني آنذاك (حلم) أن يكون وزيراً للخارجية وهو ما لم يتحقق له.. على كثرة ما شغل من مناصب وزارية.. كان بعضها أعلى وأهم بكثير من ذلك المنصب..

على أية حال، لم يكن ذلك (الحلم) بالأمر المهم حقيقة.. لا على المستوى الشخصي ولا على مستوى لبنان الوطن وحياته: حاضراً ومستقبلاً، ولكن الموجع له وللبنان وللعرب جميعاً.. هو فشل (حلمه) في تغيير الميثاق الوطني اللبناني - غير المكتوب - الذي أعطى في عام 43م رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة الوزراء للسنة ورئاسة البرلمان للشيعة.. بحيث يسمح بأن يكون رئيس الجمهورية (مسيحاً أرثوذكسياً) وأن يكون رئيس الوزراء (مسلماً درزياً) بعد أن التقى معه في (حلمه) أو دعوته تلك (غاندي لبنان) وفيلسوفه الكبير الزعيم (كمال جنبلاط). لقد سعى ذلك المسعى الذي بدأه (غسان) ولحق به (كمال).. ب(الثورة الدستورية)، ولكن تلك الثورة التي لم تتحقق كلفت (كمال) حياته، كما دفع الفشل فيها ب(غسان) إلى قصر (بعبدا) ليكون مستشاراً للرئيس أمين الجميل وريث الكتائب وفكرها.. فكانت تلك هي غلطة العمر للسياسي الكبير والصحفي النجم (غسان تويني)، والتي ضاعف من حجمها سقوط (اتفاق خلدا) اللبناني الإسرائيلي الذي رعاه (آل الجميل).. ليعود (غسان تويني) وقد انطفأ الكثير من بريقه إلى الجامعة الأمريكية: عضواً بمجلس أمنائها، إلى أن جاء اتفاق الطائف.. الذي حافظ على تركيبة لبنان الطائفية وإن عدل من نسبها، بصورة عاقلة وعادلة.. ولكن دون أن يلغيها.

لقد كان لبنان حقاً أحوج ما يكون إلى تلك الثورة الدستورية التي قادها التويني وجنبلاط والتي كان يمكن لها أن تتطور لتقضي على الطائفية الدينية والمذهبية الحرجة والخطرة على استقرار لبنان وازدهاره.. وتحل محلها (الوطنية)، كما هي حال (العلمانية) الهندية، التي اعتمدت معايير الوطنية والإخلاص والنزاهة والبرنامج السياسي، بعيداً عن المذهبية الطائفية الدينية والعرقية.. فصنعت هذه الهند العظيمة التي نراها اليوم..!!

لقد انطوت تلك (الثورة) وتبخر حلمها الجميل.. ربما إلى الأبد؛ فما لا ينجز في حينه.. قد لا ينجز أبداً، وبقي لبنان غارقاً في وحل طائفيته.. التي تتخلل كل شرايينه السياسية والإدارية، والقضائية والعسكرية، محروماً من رجال يستحقون رئاسته.. أياً كان دينهم.. وأياً كان مذهبهم.. ك(غسان تويني) أرزة الإرادة والأمل والحزن.. والتواضع والعظمة والنكران.

* إعلامي وأديب سعودي ** من قصيد (ليالي بيروت) للشاعر خليل الحاوي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة