Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

ضمير الصحافة العربية
مايكل هدسون*

 

 

في محاولة العالم العربي التغلّب على ما يعانيه من أزمةٍ على صعيد الشرعية السياسية، كانت مهنة الصحافة واحداً من العناصر الإيجابية القليلة الفاعلة في المجال الاجتماعي والسياسي. والمؤسف هو أنَّ هذه المهنة هي مهنة خطيرة، كما بيّنت الأحداث الأخيرة في كلّ من العراق ولبنان؛ لكنها مهنة نبيلة أيضاً (حين تُمَارَس على الوجه الأفضل) بقدر ما تفتح نافذةً وتتيح فرصة التعبير الحرّ عن المعلومات والآراء التي غالباً ما تكون مقيّدة أشدّ التقييد في البيئة السلطوية التي تعيش فيها السياسة المعاصرة في المنطقة.

يمثّل غسان تويني ضمير الصحافة العربية. ففي ظلّ قيادته الحازمة، كانت الصحيفة البيروتية المتقدّمة، النهار (أو نيويورك تايمز الشرق الأوسط كما يُشار إليها في بعض الأحيان) تنقل الأخبار بموضوعية ومن دون تحيّز إيديولوجي. وكانت صفحات الرأي فيها مفتوحة أمام وجهات النظر جميعاً، ما دامت تعبّر عن نفسها بمسؤولية. فعلى الرغم من وجهات نظره الراسخة في المسائل المتعلقة بلبنان، وخاصّة التدخّل السوري هناك، أتاح تويني لصحيفة النهار أن تكون أيضاً منتدى للآراء الأخرى. ولم يكن ذلك سهلاً. لكنَّ تويني بقي ثابتاً في التزامه الصحافة النزيهة والموضوعية، على الرغم من الضغوط والخسارات الشخصية، خاصةً اغتيال ابنه جبران، السياسي ووريثه في النهار عام 2005. وبهذا يكون غسان تويني قد جسّد ضَرْبَاً من النموذج والمثال الذي يحاكيه الصحافيون المحاصرون في غير مكان من العالم العربي ويترسّمون خطاه.

وبالطبع، فإنَّ غسان تويني ليس مجرّد صحفي. وحين منحته الجامعة الأميركية في بيروت الدكتوراه الفخرية علم 2005، أوردت في حيثيات هذا المنح ما سبق لتويني أن وصف به نفسه في جامعة هارفرد عام 1997، في معرض كلامه عن إعادة بناء لبنان: «مجرد صحفي عامل»، لكن عميد هارفرد أضاف لدى تقديمه أنّه «رجل دولة، وإنسانيّ، وأديب، وربما قبل ذلك كلّه ضمير اجتماعي وسياسي». وما من مبالغة في هذا الوصف. فتويني «مثقف عام» وفيلسوف مُحترَم. وقد استنرنا به في فهم السياسات الدولية المتشابكة في المنطقة، وخاصةً في فهم الوضع اللبناني الهشّ. كما انخرط في جدالات حول الإصلاح الديمقراطي والإسلام السياسي، وحول العلمانية والطائفية، وكان نصيراً لليبرالية على مدى مسيرته الطويلة، ربما أكثر من أيّ صحافي آخر في المنطقة.

أما دار النهار، مؤسسة النشر التي أقامها تويني، فقد ارتقت بكلّ من البحث والحوار الفكري، وذلك فضلاً عن كون تويني مربّياً أيضاً، يدافع عن الإصلاح التربوي ويشغل مناصب بارزة في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة البلمند. كلُّ ذلك إلى جانب ترويجه الثقافة والفنون الجميلة. فتشجيعه بناء مجتمع الثقافة التاسع وإقامة بنيةٍ تعزّز التعبير الفني والفكري، يشكّل جزءاً من إرثه. ولذلك، فهو ليس مجرد صوت فردي لامع، بل أيضاً ذلك الباني، الذي وفّر للمثقفين والفنانين فرصة تطوير أنفسهم والتعبير عنها.

وعلى الرغم من أن شهرة تويني الأساسية هي في حقل الصحافة والأدب، إلا انه أسهم في حقل السياسة أيضاً: كعضو في مجلس أمناء الحزب القومي السوري الاجتماعي في لبنان أوائل خمسينيات القرن العشرين؛ وكوزير في الحكومة في بعض الأوقات؛ وسفير للبنان في الأمم المتحدة؛ ومستشار من خلف الستار؛ ووسيط ومفاوض في أزمات لبنانية عديدة؛ علاوةً على عودته مؤخّراً إلى البرلمان لكي يشغل المقعد الذي كان يشغله ابنه جبران. ولقد تجنّب تويني كلّ حقد ونزعة ثأرية، ودعا اللبنانيين إلى التوافق واستئناف ذلك التمدّن الذي ساد كثيراً من التاريخ اللبناني الحديث (وإن يكن ليس كلّه). ولا شكّ أنّ مثل هذه الصفة هي من صفات رجل الدولة.

ولقد أبدى تويني عن قدرته في البلاغة واتّقاد العاطفة. فقد صرخ، وهو يمثّل لبنان في اجتماعات الأمم المتحدة أثناء الحرب الأهلية: (دعوا شعبي يعيش!) و(شعبي ليس للإيجار أو البيع!) ومع ذلك فقد كان صوته في الوقت ذاته صوت الاعتدال والتمدّن. فقد رفض فكرة صراع الحضارات، ودافع -كما يقتضي واحدٌ من أفضل التقاليد اللبنانية- عن الحوار والفهم المتبادل. وفي مرحلةٍ غالباً ما يكون فيها الخطاب السياسي في المنطقة ذلك الخطاب الحانق والدوغمائي والمتطرف، فإنَّ تويني يجسّد مثال الحوار المفعم بالذكاء والتمدّن.

إنَّ العالم العربي والشرق الأوسط الكبير بحاجة للمزيد من أمثال غسان تويني.

* أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة