Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

سمّيي الكبير
غسان سلامة*

 

 

كان والدي معجباً بالشاعر صلاح لبكي، وكان قرّر يوم ولدت، أن أحمل اسمه، لكن شاباً كان قد عاد إلى لبنان قبل مولدي بعامين أو ثلاثة، بعد إقامة في جامعة هارفرد وهي إقامة بترت بوفاة والده المفاجئة، ليخترق عالم السياسة والصحافة والعمل العام، بما بدا لمعاصري تلك الحقبة وكأنه تعبير جديد عن الحداثة وتشخيص غير مألوف للأناقة، مع قدرٍ واضح من الاستعداد للمخاطرة، أعجبت والدتي بالعائد الجريء، بكلمته، بمواقفه، بطلّته، فكان لها القول الفصل في تسمية الوليد. لذا جاء الإعجاب بالرجل عندي نوعاً من الإرث العائلي، ولما سمح الزمان بأن اقترب ممن لم يعرفه الوالدان إلا عن بُعد، لم أخاطبه إلا ب(سمّيي الكبير) كان يفرح بالإشارة ويعترض، دون تشدّد بالغ، على الصفة.

أخذتني في شبابي أفكار وأهواء بعيداً عن مطارحه.

كان الرجل يخوض معارك سياسية وانتخابية، أخبرني بها معاصروه وقرأت عنها لاحقاً، ثم تابعتها عن بعد دونما اهتمام عميق.

كان صاحب (النهار) هو الذي يستوقفني، انتظر صدور الصحيفة لأقرأها قبل أن أنام وكانت النسخ الأولى تصل مقهى (الهورس شو) على شارع الحمراء، نحو الثانية صباحاً (فيتناتشها السامرون) وكنت أحياناً منهم, وكونت صورة عنه لا أدعي اليوم بتاتاً أنها كانت غاية في الدقة، صورة عضو فاعل، بل قيادي، في النخبة السياسية الحاكمة، يشترك في الحكومة ويخرج منها ويكون ذهابه إليها والإياب حدثين بارزين، يدخل المجلس النيابي أو يفشل في الولوج إليه، ويكون نجاحه، ولا سيما عجزه عن ذلك، شغل الناس الشاغل، لكن هذه الصورة المبنية على تلاحق أحداث السياسة الجارية آنذاك، ما كانت لتشبع إصراري على تحديد ملامح الرجل في نسقٍ فكري، بل كانت حركيته الدائمة، التي لم تفارقه وهو في الثمانين، تهدد دوماً محاولاتي المتجددة لتحديد موقعه في نسق ما، حتى وصلت إلى نحو قناعة بأن مهنيته الصحافية تطغى على أي اعتبار آخر، على عمله الحكومي والنيابي ولاحقاً الدبلوماسي، إلى حد تحويل تلك الحركية من مجرد وتيرة للتعامل مع الشأن العام إلى ما يشبه المضمون القائم بنفسه.

ذلك أن تلك الحركية قد أكسبت صاحبها قابلية غير عادية على التنبه لما هو جديد، طارئ، غير متوقع وعلى التركيز عليه بل على السعي للتوصل إلى فهمه وتفسيره وإعلام الناس به، قبل أن يشعر الآخرون بمجرّد الاستقلالية وكان جلّهم يتميز، على العكس، بنوع من الرتابة وقدر من التعلق (بالأصول) الحقيقية أو المزعومة، بل كانوا على الأرجح يخافون كل جديد ويرتابون منه، ويعتبرون أن صعود أي نجم، وبناء أي موقع، وقيام أي مشروع، مبادرات تهدد موقعهم في السياسة والاقتصاد والمجتمع.

ولأن المواقع البارزة في الساحة العامة اللبنانية كانت في أكثريتها الساحقة حديثة العهد، بل مستجدة، كان أصحابها في الأرجح يشعرون بأنها هشة، مهددة، قد يُقضى عليها أو يقلّص من نفوذها من يأتي بفكرة جديدة أو بمصدر جديد للتأثير.

على عكس هذه النخبة المذعورة من أي تحوّل، كان غسان تويني مقبلاً على كل مغاير، ساعياً لفهمه، للتقرب منه، للتفاعل معه، وكان في إقباله هذا، يعبّر ولا شك عن فضول الصحافي المنخرط كل يوم، في سباق محموم مع الآخرين ومع تحولات الزمن، وعن حرص صاحب الجريدة التي أصبحت على يده الأولى بامتياز، بل النموذج لكل مشاريع الصحف التي صدرت بعدها، على استقطاب أي قلمٍ مبدع قبل أن يختطفه منافس.

وكان فرحه بقيام صحف عربية بمحاولة السير على منوال (النهار) قصيراً ومتواضعاً بينما كان عتبه على الأقلام التي كانت تغادر (النهار) للالتحاق بصحف أخرى في لبنان أو في الخارج مديداً مدوياً, وكأن الرجل بات في تنافسٍ مضنٍ مع نفسه، يسعى للتفوق على ذاته، وكأن (النهار) ما عادت الجريدة اللبنانية الأولى دون منازع، وكأنها أمست معه الجريدة الوحيدة، الجريدة وحسب.

لكن فضول الصحافي وحرص الناشر ما كانا يكفيان لفهم ذلك الولع التويني بكل جديد، بكل مجهول.

بكل طارئ، بالرغم من أن تعليله لذلك الشفق كان مهيناً وحسب، ولو كان ذاك التعليل كاملاً لأثار عندنا الإعجاب وحسب دون أية مشاعر أخرى.

لكني كنت أميل للظنّ، وما زلت حتى اليوم، أن تلك الحركية، وذاك الولع بالجديد كانا ينمان عن محفّزات أعمق، عن نوعٍ من انعدام الرضى عما هو قائم، برتابة النخبة السياسية، بقصر نظر القيمين على الأمور بل عن رفض مكبوت لهندسة التركيبة الدستورية والسياسية في لبنان، وظني أن ذلك التوتر الخلاق الذي يميز شخصية غسان تويني، والذي تفوق على مرور السنين، وعلى تنوع المهام العامة، وعلى تنامي الإعجاب بالشخص والإقرار بمكانته، بل وعلى سلسلة غير عادية من المآسي العائلية المتلاحقة، كان نتاجاً لتناقض عميق بين انتمائه إلى نخبة وطبقة وطائفة ومصلحة وفئة وشلّة من جهة وبين نظرة ذاتية لكل هذه الانتماءات لا تخلو من النبذ والرفض بل ومن الابتعاد العاطفي عنها، ان لم يكن من التعالي المجروح عليها وإن كان تقرير المحفزات العميقة للمسلك الفردي نوعاً من الضرب بالرمل، فلا ينبغي أن يدخل أي امرئ تلك المجازفة، وإن أنا فعلت ذلك هنا الآن، فلأن تفسير ذاك التوتر الخلاق بمجرد الفضول الصحافي ما أقنعني يوماً، وخصوصاً لأن ذاك التوتر الخلاق هو تماماً ما انفكّ يثير اهتمامي بالرجل وإعجابي به بل هو، ببساطة وصدق، أصل محبتي العميقة، الدائمة، المتجددة له.

وزير سابق – كاتب و أستاذ جامعي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة