Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

إنسانٌ حُر
صلاح ستيتية

 

 

مارسَ غسان تويني، العزيز علي جداً، مارسَ دائماً مِهَناً تتطلبُ قبل كل شيء الشجاعةَ وسعةَ الخيال، فكان مرةً بعد أخرى أو في آنٍ معاً، صحافياً ونائباً في المجلس ووزيراً ودبلوماسياً.

تفترضُ الشجاعةُ، لا بل تتطلَّبُ حريةَ التفكير: لقد عرف غسان دائماً في وظائفه المتنوعة، كيف يحافظ على حريته، على حرية تفكيره وعلى حرية عمله، في قلب مجتمعٍ لبناني من أكثر المجتمعات تعقيداً في العالم كله، ونتيجةً لتجذُّره الجغرافي في هذه المنطقة المضطربة من الشرق الأدنى، يُعتبر مُهّدَّداً وعلى سويةٍ عالية من الهشاشة أكثر من أي مجتمع آخر، بالأمس كما في هذا الأيام.

تَمَّ تكوين رجل الضرورة غسان تويني، منذ البدء عبر قراءة الفلسفة الإغريقية، فكان أفلاطون وأرسطو من أوائل مُعَلّميه، وهو لم يعرف ولم يَشأ أبداً فصلَ حركته الفاعلة من أجل الأنوار عن فكره المتمايز والدقيق المُحكم، في بيئةٍ يُهيمن عليها بعامةً الفكرُ الأحادي قومياً وإقليمياً، ونعني به هذا الشكل من التكتُل والتَّراص المنحاز والمُشَايع، عسكرياً أو دينياً، الذي يحتل مكان التَّصوُّر والإبصار ويَدَّعي المقدرة على تسوية شؤون البشر باستعمال قوة أجهزة النظام العام أو القوة المادية المجردة، بعون الله. الله الحجة الوحيدة المقبولة، الحجة التي يستحيل دحضها كما نعرف جميعاً: عند المسلمين وعند المسيحيين وعند اليهود.

وضَع غسان قلمه كصحافي كبير واضح الرؤيا، وضعه في خدمة التقدم، فهو صاحب العقل المتطور والمعاصِر المنطلق دائماً من المستقبل، الحالم بخلاص الجميع، هذا التقدم الذي يحسب في السياسة حسابَ طبيعة الأمور ويرسي قواعدها، لا على صعيد (المبادئ) فحسب، بل في التطبيق العملي وبممارسة شكل من أشكال الواقعية. على أية حال، من هو الذي يجرؤ على الكلام عن المبادئ في الشرق الأدنى الذي تُشَكّل فيه الشعارات وحدَها البرنامج السياسي لهذا الطرف أو ذاك داخل جماعة قومية واحدة، أو من جماعة إلى أخرى.

ففي افتتاحياته الرائعة المُفْصِحَة التي تنشرها (النهار)، وفي كتبه المتجهة إلى التحليل السياسي، وفي مذكراته طوال المدة التي كان فيها سفير لبنان إلى الأمم المتحدة، مواكباً لسنوات تقلبات الحرب الأهلية اللبنانية، لم يُفَرّط غسان تويني أبداً بواجبه في أن يكون واقعياً، هو قارئ أرسطو بلا ريب، بل أيضاً قارئ هيچل وماركس وچالبريث.

يبقى أن المفكّر السياسي ينبغي به في دنيا كدنيانا أن يكون رجل ثقافة، ثقافة شاملة فسيحة قَدْرَ المستطاع وإلا فإنه ليس بشيء.

كان تويني هذا الرجل وما زال، مازجاً المبادئ التي لا مَساسَ بها - وهذا واجب- بقانون الممكن وبالذرائعية الضرورية، والمُخَطَّط النموذجي للمهندس بالطبيعة وبالمرونة أو بمقدرة المادة الأولية على التكيف. وذلك بشكل متناغم على سوية مأساة لبنان، التي كلما تضخّمتْ كلما تضَخَّم احتمال سرطنة الشرق الأدنى.

كذلك كان يكبر رجلُ الفكر والإدارة الذي أنوه به هنا، ويرى دورَه يتسع وتأثيره ونفوذه لدى قرائه القدامى وعند الأجيال الشابة التي سيغدو ابنُه جبران الذي رُبّيَ في مدرسة الوالد الحاذقة التي لا تُمارس التنازلات، سيغدو الناطق باسم هذه الأجيال الشابة يوماً بعد يوم.

توفي جبران شهيداً للحرية في الظروف الرهيبة التي نعرفها. وبقي غسان ويبقى رغم الحزن صامداً في الخط الأول منهمكاً في العمل نفسه، عاملاً بنزاهة وتصميم على ترميم الأنقاض نفسها التي تعود وتتراكم دائماً. يقال إنه تجاوز الثمانين، وهو كذلك بلا ريب، وما زال في العشرين.

* سفير وأديب لبناني


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة