Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

دفتر الجروح
غسان شربل*

 

 

هذا الرجل ليس بريئاً. ارتكب ما يستحق النقد. واللوم. والمحاكمة. تسلل إلى عقول آلاف الشبان. اغتال هناءة عيشهم في ظل المسلمات الموروثة. دس في أيامهم سيلا من الأسئلة. وعلامات الاستفهام. وزع الشكوك. استدرجهم إلى وليمة القلق. إلى قسوة الخيار. استدرجهم من سجون طوائفهم. من سجون المناطق. وقوالب المفاهيم الجامدة. حرضهم ضد الظلام ووطأة المقابر وسطوة الماضي.

هذا رجل مصاب بلعنة النهر. لا تأسره فكرة. لا يقولبه حزب. لا تتسع له حكومة. يخوض المعارك. يتبنى وينحاز. يشهر قلمه ضد الاستبداد والجنوح والطغيان. يخالف ويحالف. يخطئ ويصوب. يعتنق ويبدل. ثمة عشيقة وحيدة استولت عليه. لم يغدر بها ولم يتنكر. واسم هذه العشيقة الحرية. فهي بالنسبة إليه الباب والمفتاح والنجم الحارس.

غسان تويني. جاء إلى الصحافة من الفلسفة. لازمه هاجس الأسئلة. تضاعف الإجابات عطشة إلى أسئلة أخرى. رجل قلق. متطلب. يريد الخبر سباقا وبالغ الدقة. يريد المقال أشد نفاذاً. والعنوان أكثر رشاقة. والصحيفة رغيف حرية. ويريد الحياة السياسية ديموقراطية. والدولة عصرية. والأحزاب مفتوحة على المستقبل. ويريد بيروت المبتهجة بوسادة التاريخ مدينة مشحونة بقلق الجامعات والعلم والمسرح والشعر. لهذا كان يقلب الصحيفة كما يتفقد البستاني حديقته بعين العاشق وعين الناقد.

رأيت الرجل القلق يسابق الوقت. يحرق الساعات ويحرق السجائر. تنام المدينة ويسهر مع أسئلته. تذهب الصحيفة إلى المطبعة فيذهب إلى العدد المقبل. كمن يدحرج الصخرة ولا يصل. كل مساء تموت الصحيفة. وكل فجر معركة أخرى. وغالبا ما كانت العين الرائية القاسية ترى الثمار اقل من الأحلام. ثمار الصحيفة وثمار الوطن.

كانت (النهار) تتسلل إلى البيوت. يقرأ فيها الأب أخبار السياسيين. ويتدرب الأبناء على لعنة الديموقراطية. ويذهب المصابون بلوثة الثقافة والكتابة إلى رحابة ثقافتها وجموح العناوين. انه هذا الخيط الذي ربط (النهار) بقرائها. وهو الذي جعل مقال غسان تويني موعدا لا بد منه لكل المنخرطين في معارك البلد وطموحاته ومخاوفه. موعد لا بد منه لمؤيدي (الأستاذ) وهم كثر ولمعارضيه وليسوا قلائل.

بالحبر كان يقاتل. يقلق الحكومة ويقلق الحاكم. وكان اللبناني العادي يشعر أن (حزب النهار) يبقى صامدا حين تتقاعد باقي الأحزاب أو تستكين أو تتغطى باعتبارات السلامة. ودائما كانت لدى غسان تويني صياغة جميلة أو مثيرة أو جاذبة تعطي للمعركة السياسية أو الوطنية نكهة أخرى. فقدر هذا الرجل أن يكون مختلفا في بلاط صاحبة الجلالة. وقدره أيضاً أن يكون مختلفا حين يمر بمقعد وزاري أو يعطي لمقعد لبنان في الأمم المتحدة ثقلا غير عادي لا توفره إلا القامات الاستثنائية.

ليس سهلا على الصحافي الناشئ الوافد إلى (النهار) أن يعمل فيها. يشعر دائما انه أمام امتحانين قاسيين: امتحان أمام قارئ لا يرحم وامتحان أمام عميد الصحيفة وهو لا يتساهل. لكن الظل الكبير لغسان تويني لم يكن ظلا قاتلا. كان ظلا محرضا يطالب الوافد إلى المهنة بان يكون عاشقا لها. وبعد العشق لا بد من الكد والتدرب والتنبه الدائم. وكان على من يسهر في الصحيفة أن يتوقع أن يجيئه في الليل صوت غسان تويني وان من عاصمة بعيدة سائلا ومدققا ومستفسرا. وكان على عادة الأساتذة يقتصد في المديح ولا يقتصد في سهام النقد للتقصير لكن مع رحابة تتحدى العاملين وتدفعهم إلى الأمام. وهي رحابة سمحت لشجرة (النهار) أن تحتضن صحافيين بارزين وكتابا لامعين.

بالحبر والحلم كان غسان تويني يقاوم ظلام الحرب وظلم من يتدفأ على النار المندلعة في حنايا الوطن. وبالإيمان والصبر كان يقاوم قسوة القدر حين يخطف عزيزا من شجرة قلبه. وتحول هذا القلب دفتر جروح تتجاور فيه أوجاع بلاد وأوجاع زوج وأب. إنها قصة غسان المقيم بين جبرانين الأول أنهكته لعنة الكتابة والثاني قتلته لعنة الوطن.

* رئيس تحرير صحيفة (الحياة)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة