Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

بين احتراف الصحافي ومهمات المفكِّر
فؤاد السنيورة*

 

 

أقبلْتُ على قراءة غسّان تويني في (النهار) في مطالع الستينات من القرن الماضي، وما تركْتُ هذه العادة (الحميدة) حتّى اليوم.

لكنْ ومنذ أواخر السبعينات من القرن الماضي أيضاً، بدأت كتب غسّان تويني تتوالى وتتعدد، بين مقالاتٍ مجموعة، ومؤلَّفاتٍ بشأن قضايا وطنية معينة اهتمَّ بها ولها، وأُخرى توثيقية لناحيةٍ من نواحي الحياة الوطنية والقومية والبيئات العالمية.

وهكذا، ومنذ مطالع الثمانينات من القرن الماضي أيضاً اتّضح لديَّ هذا التنافُس بل الصراع بين وجهين من وجوه شخصية الأستاذ تويني الكبيرة: وجه الصحافي المحترف بأرقى أدوات وأشكال الاحتراف، ووجه المفكّر والمثقّف الشاسع الأُفُق، والملتزم من الناحية الفردية ثقافةً وأخلاقاً وقضايا وقناعات.

وقد رأيتُ وأنا أفكّر خلال الشهرين الماضيين في كتابة شيءٍ مميَّزٍ وفاهم عن غسّان تويني شخصيةً وقلماً، أنّ هذا التمييز أو الفهم ضروري باعتباره المدخل الصحيح لفهم الرجل وأثره في المراحل الأربع التي مرَّ بها لبنان، والتي عاشها تويني كلَّها، وترك بصماته فيها وعليها، كما تركت فيه وفينا آثاراً غائرةً يصعُبُ تجاهُلُها أو نسيانُها.

أولى تلك المراحل في حياة لبنان الحديثة تقع بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي، وهي المرحلة التي أدركها تويني، كما أدركها مثقفون لبنانيون كثيرون (على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم) باعتبارها مرحلة التأسيس للوطن والدولة، وللهوية والانتماء، وللتوجه السياسي والاقتصادي للبلاد.

وهي المرحلةُ التي خاضها الأستاذ تويني بحماسٍ شديدٍ، بحكم الشباب، وبحكم الثقافة السياسية الحديثة، فانتصر لثقافة المواطنة وبناء الدولة، وحريات المواطن الفرد، والموازاة والمساوقة بين الاجتماعي والسياسي، بل ومحاولة الموازاة والمساوقة بين الوطني والقومي.

ولأنَّ الصراعَ الأيديولوجي والسياسي في لبنان ومن حوله كان شديداً وكبيراً، فقد بدا الثقافي- السياسي لديه أحياناً متقدماً على الاحتراف الصحفي.

لكنّ هذا الانطباع إذا وُجِهَ بتتبُّع مقالاتِه بين 1965 و1975، يبدو غير دقيق.

إذ إنّ الأستاذ تويني في هذه المرحلة بدا شديدَ الانسجام بشكلٍ عامٍ وفي الوجهين الأبرز من وجوه شخصيته السياسية والوطنية والإنسانية: وجه الصحافي المحترف، ووجه المثقَّف الملتزم.

فقد آمن إيماناً عميقاً بالخصوصية اللبنانية، وإمكان قيام دولة في الوطن اللبناني، وبالمعنى الحديث للدولة المَدَنية التي يسودُها مبدأُ المُواطنة.

ويمكن القولُ أيضاً إنّ وجهة نظر المثقّف الفرد أو فردانية المثقّف الحديث، بدأت تحكُمُ لديه قَلَمَ الصحافي المحترِف، دون أن تُلغيَهُ أو تشوّهَهُ لالتزاماتٍ أيديولوجية غير التزام المواطنة.

ويمكن القولُ أيضاً أنه منذ هذه المرحلة غَلَبَ عليه الوعيُ القائل بأنَّ (ضرورات المرحلة) أكبر من قُدُرات أو أهم من ممارسات رجال السياسة والعمل السياسي في المتابعة والإدراك والاستيعاب والتصرُّف.

ويمكنُ مراقبة ذلك لديه في أربع ملفات رئيسة يومَها: ملفّ الإصلاحات والحريات والمواطنة في عهد الرئيس فؤاد شهاب ومصائر ذلك الملف في عهدي الرئيسين شارل حلو وسليمان فرنجية.

وملفّ التصرف تُجاه انقلابية الحزب القومي السوري.

وملفّ (الحرمان المناطقي والطائفي) ومحاولة الإمام موسى الصدر الإنقاذية والاندماجية، وملفّ التعامُل مع المقاومة الفلسطينية البازغة والمتطوّرة على الأرض اللبنانية وصولاً لاتفاق القاهرة وما بعد.

أمَّا المرحلةُ الثانيةُ في حياة لبنان، فتمتدُّ بين العام 1975 واتفاق الطائف 1989-1990.

وهي تمتدُّ لدى الأستاذ تويني على الخصوص بين عامي 1975 و1985.

وكان الانشغال اللبناني الرئيس خلال هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ لبنان وتجربته منصباً على أمرين: إيقاف الصراع الداخلي، ومواجهة الاجتياحات الإسرائيلية المدمّرة.

وفي هذه المرحلة بالذات تأثرت تجربة الأستاذ تويني وكتاباته بتولّيه مسؤوليات في إدارة الرئيس الياس سركيس في الأمم المتحدة، وفي المفاوضات بشأن جلاء الإسرائيليين عن أرض لبنان، وفي الشورى والخيارات بشكلٍ عام.

وفي هذه المرحلة بالذات برز إلى حدٍ كبيرٍ وجهٌ آخرُ من وجوه شخصيته الكبيرة: وجه رجل الدولة، في حين لم يغب الوجهان الآخران: وجه الصحافي المحترف، ووجه المثقف المعترض أو النقدي.

فإلى جانب إسهاماته البارزة في حماية لبنان، وتحرير أرضه من خلال القرار الدولي رقم 425، ورأيه المتمايز في اتفاق 17 أيار، وفي العلائق مع سورية، وفي مؤتمري جنيف ولوزان، برزت أُطروحته التي صارت عنواناً لكتاب: حروب الآخَرين على أرض لبنان.

فمما يُحْسَبُ لغسّان تويني أنه وهو الذي كتب كثيراً في قصور المحاولة الإصلاحية الشهابية، وفي التعامُل القلق مع ظاهرة المقاومة الفلسطينية، ظلَّ على اقتناعٍ عميقٍ بإمكان خروج لبنانَ من المأزق، إذا أمكن إخراجُهُ من الصراع العربي - العربي، والعربي - الدولي.

ولذلك ظلَّ حتى اتفاق الطائف يسأل نفسَه ومحاوريه: ماذا تُريد سورية من لبنان؟ وهل يستطيع العربُ الكبارُ (ضمان) لبنان مع سورية وليس في مواجهتها؟! وتقعُ المرحلة الثالثةُ من مراحل تاريخ لبنان المعاصر بين اتفاق الطائف واستشهاد الرئيس رفيق الحريري.

وخلالَ هذه المرحلة برز لدى تويني وجهُ المثقف النقدي، والمفكّر الملتزم، بما يتجاوز التعليق السياسيّ إلى التأليف والتوثيق للحياتين السياسية والحضارية للبنان ولعلائقه بالشرق والغرب.

وعادت لديه هموم وموضوعات الستينات من القرن الماضي: هموم المواطنة والانتماء وبناء الدولة، والعلاقة بسورية (في حين كان الأمر لديه في الستينات العلاقة بالمقاومة الفلسطينية، وبالانتماء العربي).

فقد أتاحت جهود الرئيس الشهيد رفيق الحريري في الإعمار والنهوض الاقتصادي وإعادة مؤسَّسات الدولة للعمل، التفكيرَ في أُطروحة الدولة المدنية الحُرّة ومقتضياتها، وسط ظروفٍ مختلفةٍ تماماً بعد انقضاء الحرب الباردة، واشتداد القبضة السورية الضاغطة على لبنان، وما اعتبره الأستاذ تويني وآخرون غيره تهميشاً للمسيحيين، وتجاهُلاً للصيغة التأسيسية للكيان والتي تطورت مع اتفاق الطائف إلى آفاقٍ جديدةٍ وواعدة.

وفي المرحلة الرابعة، بعد استشهاد الرئيس الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان، ما لجأ الأستاذ تويني إلى (استراحة المحارب)، وبخاصةٍ بعد استشهاد ابنه النائب جبران تويني، بل اعتبر نفسه بين القِلّة المسؤولة عن استمرار لبنان وصيغته وحرياته ودوره في المنطقة والعالم.

ما أزالُ أقرأُ تعليقات المفكّر والسياسي غسّان تويني، كما أقرأُ كتبه.

ويُدهشُني الجديد الجديد، و(اللا مفكَّر فيه) من غيره، في الكتابات والمواقف والآراء: ثقافةٌ شاسعةٌ، وإيمانٌ عميقٌ بحرية الفرد الإنساني وقدرته على صُنع الرائع والواعد، وانتماءٌ كبيرٌ للبنان الوطن والدولة والأمة والعالَم والعصر.

غسّان تويني علامةٌ بارزةٌ في صحافة لبنانَ والعرب، وفي ثقافة لبنانَ والعرب، وفي سياسة لبنان والعرب.

* رئيس الحكومة اللبنانية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة