Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

بعض ذكريات عبرت
رياض نجيب الريّس*

 

 

ما بين غسان تويني وبيني لا يعني أحداً. لكن ما بين غسان تويني وجريدته يعني كل الناس. فالحديث عن هذا الرجل يختلط فيه (بالنسبة لي على الأقل) الخاص بالعام، والسياسي بالصحافي، والأنا بالآخر، ويفيض الحديث عن غسان تويني إلى جداول عدة، لتصبح أنهاراً عندما تلتقي.

من بين هذه الجداول كان لي هناك فيها ساقية روت لسنوات حديقة مهنية جميلة من الصداقة والزمالة، في صحراء كانت تبدو قاسية ومقفرة بين حين وآخر لولا غسان تويني، إلى أن أصبحت في نهايتها جدولاً بلا ماء. وما هذا الحديث سوى نتف من ذكريات عبرت.

أول ما عرفت غسان تويني كان في العام 1955 وعملت معه عن كثب منذ العام 1964، وكنت عائداً حديثاً من إنكلترا بعد دورة تدريبية في الصحافة البريطانية، باحثاً عن عمل في الصحافة اللبنانية. كنت أجد نفسي أقرب فكرياً وسياسياً إلى (النهار) وغسان تويني، من أي صحافي آخر في ذلك العصر، على رغم الفارق في السن بيننا. وكنت معجباً بثقافته الواسعة وليبراليته وانتمائه السابق إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. وكان سبق أن تعرفت إليه حين كان نائباً عن بيروت في الخمسينيات، إذ دعوته بصفتي رئيس النادي الثقافي العربي في مدرسة برمانا العالية، العام 1955، إلى إلقاء محاضرة عن فؤاد سليمان الذي كان قد رحل بعد مرض طويل. وكان فؤاد سليمان يكتب في (النهار) زاوية بعنوان (تموزيات) ويوقعها بتوقيع مستعار هو (تموز). كان فؤاد سليمان شاعراً وأديباً ذا نفَس ثوري، ينتمي إلى مدرسة الحزب القومي. وكنت معجباً به وبكتاباته. من هناك بدأت معرفتي الشخصية - التي سرعان ما توطدت - بغسان تويني منذ ذلك التاريخ، بمعزل عن صداقة والده جبران تويني لوالدي نجيب الريّس والعلاقة التاريخية بينهما.

لذلك لم يكن مستغرباً أن يعرض عليَّ غسان تويني الالتحاق ب(النهار) بعد اغتيال كامل مروة في العام 1966. وكانت قد تكونت لي سمعة مهنية معقولة في (الحياة)، التي عملت فيها محرراً للشؤون العربية والدولية ومراسلاً متجولاً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياة صاحبها. وكان غسان تويني يريد أن ينتزع، دور (الحياة) العربي في الصحافة اللبنانية. وقد كانت (النهار) في ذلك الوقت جريدة لبنانية صرفة، فأراد محرراً عربياً غير لبناني وصحافياً ذا ثقافة إنكليزية مقابل معظم محرري (النهار) اللبنانيين ذوي الثقافة الفرنسية. وكانت هذه المواصفات تنطبق عليَّ.

غسان تويني لاعب أساسي في السياسة اللبنانية، وكانت اهتماماته العربية ضيقة ومحدودة، ومعرفته بالعالم العربي ضئيلة. إلّا أنه كان رجلاً مثقفاً وقارئاً جيداً صاحب عقل مستنير وحاسة صحافية نادرة. يطرب للأفكار الجديدة والجريئة، ويهيم بالمغامرة الصحافية. إلى جانب كونه صاحب أسلوب متميز في الافتتاحية السياسية. إلّا أن أهم جانب صحافي فيه، والذي بنى عليه نجاح (النهار) في عصرها الذهبي بين عامي 1966 و1976، هو في رأيي، قدرته على (قيادة) فريق صحافي من مختلف المواهب والنزعات والأفكار ليصب في خدمة جريدته. وهو قطعاً أبرع (مايسترو) صحافي عرفته. ومن المؤسف أنه ملّ الصحافة وهام بالسياسة، فخسرته الصحافة، ولم تربحه السياسة.

***

بيني وبين هذا الرجل الذي اسمه غسان تويني نحو خمسين سنة من المعرفة، منها - كما أعتقد - أكثر من عشر سنوات من الصداقة، مر بعضها بفترات حميمة. لكن علاقتي بغسان تويني كانت دائماً جزءاً من علاقتي ب (النهار). حتى عندما تركت (النهار) في نهاية العام 1975 تحت وطأة ظروف الحرب الأهلية اللبنانية - قبل عودتي إليها كاتب مقال أسبوعي في آب من العام 1993 - وباعدت بيننا المسافات، هو سفير للبنان في الأمم المتحدة في نيويورك، وأنا صحافي في مشاريعه الخاصة يسعى في مناكب لندن، ظللت على صلة مباشرة معه فترة، وصلات بالواسطة فترات. لكنني كنت على يقين دائماً بأن هناك خيطاً من الود، كان وما زال يربط بيننا، على الرغم من الخلاف في الرأي السياسي وتضارب المصالح والتنافس المهني غير المتكافئ.

لكن علاقتي بغسان تويني ظلت تبعد وتقترب بقدر بعدي أو اقترابي من (النهار). ولم تكن صداقته لي - أو صداقتي له - (شخصية) إلا إذا كان لها ركن (نهاري). لذلك عندما انقطعت علاقتنا المهنية نهائياً في شباط العام 2000، إثر تخلي غسان تويني عن مناصبه الرسمية وإعلان (تقاعده) النظري وتولي جبران تويني الابن مسؤولية (النهار) مديراً عاماً لها ورئيساً لمجلس إدارتها، انقطعت علاقتي الشخصية بغسان تويني وابتعد كلانا عن الآخر. ومنذ ذلك الوقت مرت مياه كثيرة من تحت الجسر.

لذلك لا يضيرني الاعتراف اليوم، بأنني افتقد جلسات غسان تويني السياسية ونقاشاته المهنية وسرحاته الفلسفية وأهواءه الثقافية وقدرته الفذة على تقبل الأفكار الجديدة واستيعابه لطروحات مبتكرة وانغماسه بالحديث والتعليق على السياسيين، بقدر ما أفتقد رفقة الأسفار معه، وخاصة إذا كانت إلى بلاد نائية! كان ذلك زمان الوصل.

بيني وبين غسان تويني، من دون أدنى مبالغة، عشرات وعشرات من الرسائل والمذكرات و(النوتات) والطروحات لأفكار صحافية ومشاريع مهنية عبر السنوات التي قضيتها في (النهار). وعلى أهمية هذه الرسائل (التوثيقية)، التي يغلب عليها الطابع المهني (النهاري) الصرف أو (التويني) الشخصي، فقد أدركت أن نشرها، أو حتى نشر بعضها - (وليس فيها أسرار من أي نوع كان) - لا يعني القارئ ولا يقدم أو يؤخر في سياق الحديث عن غسان تويني.

بعيداً عن الملاحظات (الوجدانية)، مر نحو أربعة عقود من الزمن من يوم دخلت مبنى (النهار) في شارع الحمرا للمرة الأولى في العام 1964، إلى أن غادرتها في العام 1976 ثم عدت إليها كاتباً في العام 1993 حتى غادرتها نهائياً في العام 2000، رافضاً الاعتراف بهذه الفجوة الزمنية الهائلة، وغير مدرك أن الناس تتغير والمصالح تتبدل والجرائد تختلف بين يوم وآخر. لقد ضربت عرض الحائط بكل بديهيات سُنة الحياة. فقد كان شبقي للعودة إلى الكتابة والتسكع في شارع الحمرا، أقوى من التريث والتفكير في المتغيرات التي طرأت على الصحافة اللبنانية. إلى أن أسدل الستار على علاقة غنية ونادرة بين صحافي وصحافي، وبين صحافي وجريدة، استمرت بين صعود وهبوط وشد وجذب ثلث قرن.

إذا ما سئلت ما هي حصيلة سنوات العمل الصحافي في (النهار)، أقول بلا تردد، إن هذه السنوات كانت (العصر الذهبي) للصحافة العربية لا اللبنانية فقط، وإنني كنت من جيل المحظوظين الذين عاشوا هذا العصر وعملوا في صحافته. وأن (النهار) وفرت لي مجموعة تجارب وفرص صحافية ما كان لها أن تتوفر لي في مكان آخر، والفضل في ذلك يعود إلى رجل واحد فقط اسمه غسان تويني، مهما اختلفت فيما بعد المواقع المهنية لكل منا، وفرّقت المواقف السياسية بيننا، وجرفت ظروف الحياة كلاًّ منا إلى هموم متباعدة. كان للعمل مع غسان تويني نكهة التحدي الذي لا يُجارى. وكان للسفر معه متعة تطول أطول من الرحلة نفسها، وتخزن في سجل الذكريات التي لا تنسى.

* ناشر وكاتب سوري - لبنان


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة