Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

العلامة الديموقراطية
إلياس خوري*

 

 

يحار المرء في غسان تويني، الصحافي والسياسي والكاتب والبطل التراجيدي. فإذا تحدث عن ساحر الصحافة اللبنانية الذي حوّل (النهار) إلى جريدة كل بيت، يفاجئه السياسي، الذي ساهم في قيادة الثورة البيضاء في أوائل الخمسينيات، وخاض معركة طاحنة ضد حكم الأجهزة في العهد الشهابي، وكان شابا في حكومة الشباب، واختلف مع سليمان فرنجية، قبل أن يصير أحد حكماء السلم الأهلي اللبناني، بل ربما كان هو اليوم، حكيم لبنان الأخير في مواجهة العواصف.

وإذا تكلم عن المفكر والكاتب الذي قطع دراسة الفلسفة في هارفرد كي يعود إلى (النهار) بعد وفاة والده، يكتشف عمقا فكريا يزاوج الليبرالية بحس العدالة الاجتماعية، والإيمان المستقيم الرأي بالحرية الفكرية التي لا حدود لها.

وإذا تكلم عن البطل التراجيدي، رأى البطل على صورة شعر تصنعه شفافية الماء في نصوص ناديا تويني، وعلى شكل إنسان يواجه قدر الموت بالحكمة والصبر وحب الحياة.

غسان تويني هو الصورة الأخيرة عن لبنان الوطن، إنه حكاية امتزاج تاريخ النهضة العربية بالتاريخ الأعمى، الذي جعل من نفسه فخا للعرب، محولا فلسطين جرحا دائما، وحلم النهضة مشروعا مؤجلا.

من فكر أنطون سعادة إلى الصداقة المريرة مع زعيم اليسار اللبناني كمال جنبلاط، ومن أعالي العقل الكانطي إلى وهاد السياسة اللبنانية، حمل شيخ الكلمة وأستاذها الحلم وصنع من حكايته استعارة كبرى لوطن صغير في مواجهة قدره مع محيطه، ومع طوائفه التي انزلق بها العماء إلى الحروب المدمرة.

يعرف غسان تويني، إن سر الكتابة هو الحرية، دخل السجون، وقاوم العسف، وحول (نهاره) ضوءا، يقاوم ليل العرب الطويل بالمعرفة والإبداع.

ليس مصادفة أن تكون (النهار) منبر الحداثة الثقافية والفكرية في لبنان والمشرق العربي، وليس مصادفة أن تلجأ إليها اليوم أقلام المثقفين السوريين.

وليس صدفة أن تكون (النهار) منبر الدفاع عن الكتب المصادرة، من ليلى بعلبكي إلى عبده وازن، ومن أغنيات مارسيل خليفة إلى أفلام مارون بغدادي. إنه سر الحرية.

عندما أتيت للعمل في (الملحق) عام 1992م، لم أكن أعرف الرجل عن قرب. ولم أكن أعي معنى أن تكون الجريدة الواحدة منبرا للتعدد، ولم أكن قد تعلمت سر المهنة في وصفها ممارسة مطلقة للحرية.

اكتشفت الرجل في المعارك الكبرى التي خضناها معا من أجل أن نستعيد حرية لبنان، وسط الهيمنة والخوف ولحظة اليأس التي أعقبت النهاية المبتورة للحرب الأهلية. وفي المعارك تكتشف معدن الرجال، وأمام المحن تكتشف عظمة الحياة.

دفعت (النهار) من دمها ثمن انتفاضة الاستقلال، سمير قصير وجبران تويني. وسط الدم والغبار والحزن، كان غسان تويني معلما للحياة. حمل أعوامه الثمانين على كتفيه المتعبين وانتصب كي يعلن أن تكريم الشهيدين يكون بأن ننطلق من الموت إلى الحياة. نقاوم الموت بالكلمة، ونصنع الحياة بالأمل.

أراه أمامي شيخا وطفلا، سيدا بالكلمة وخادما للكلمة، كأنه استعارة كبرى، بل هو الاستعارة اللبنانية وقد امتزج فيها ألم النهضة المجهضة بوهج النور الذي يشع من قلب الليل، معلنا أن الحكاية العربية مع الحرية والتقدم والحداثة تبدأ مع طلوع كل (نهار).

ليبرالي يشبه اليساريين، وكاتب يشبه الفلاسفة، وحكيم يشبه الآباء، وصحافي ينتفض شبابا وعزيمة، لأنه مؤمن بالحياة.

لبنان غسان تويني هو لبنان الفكرة العربية الديموقراطية، الذي صنعته ممارسة الحرية وتعلمها من جديد كل يوم.

غسان تويني المعلم أكثر من أستاذ وأعز من صديق، إنه حكاية كبرى اسمها حكاية الإنسان الذي يعيش تراجيديا الحياة بالحب والصبر والأمل.

* روائي وأديب لبناني - نيويورك


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة