Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

تويني..أو مهنة الصحافة كما ينبغي أن تكون
علي أومليل*

 

 

الإعلام في لبنان كان دائماً أوسع من جمهوره اللبناني. ولهذا انتشر خارج لبنان، وحين تأسست صحف عربية كبرى وتلفزات فضائية تستهدف الجمهوري العربي الواسع احتل الصحافيون والإعلاميون اللبنانيون مركز الصدارة في هذه الصحف والفضائيات.

ولبنان تمتعت صحافته بحرية لا نظير لها في البلدان العربية. فبفضل توفر أجواء هذه الحرية وبسبب كون الإعلام اللبناني أوسع كثيراً من جمهوره المحلي فقد اشتدت بين الصحف اللبنانية منافسة ضارية ما دام المعروض من الصحافة أكثر من المطلوب. وهكذا فإن صحفنا لا تقدر على تمويل نفسها بذاتها لكي تبقى على قيد الحياة تعرض نفسها للسخرة خدمة لجهات محلية أو إقليمية. إلا أن هناك صحفاً أخرى حافظت على تمويلها الذاتي وبالتالي على حريتها، ورفعت مقاييس المهمة كما ينبغي أن تكون في اللغة الصحفية والخبر والتعليق، وكل هذا وسط صعوبات ومخاطر في بلد استعمل ساحة لصراع الآخرين والذي وصل إلى إشعال حرب (أهلية) دامت عقداً ونصف سماها غسان تويني حرباً من أجل الآخرين.

غسان تويني يضع يومياً يده في عجين الأحداث. فقد خاض مغامرة صحفية طويلة لا يضاهى روعتها سوى أخطارها. فقد قادته مواقفه إلى الاعتقال كما عرفت جريدة (النهار) حصاراً لإسكاتها، لكن (النهار) بقيت قوية ونموذجاً لمعايير الصحافة وكما ينبغي أن تكون. غسان تويني يكتب ويعلق في غمار الأحداث، ولكنه بين الحين والآخر يتخذ منها مسافة لكي تصفو الرؤية ويتضح الموقف، فيفسر الأحداث بأصولها القريبة والبعيدة. قد يغرق الصحفي في الحدث الآني فيغفل عن العوامل الحقيقية التي تحدث تحولات عميقة لا تُرى بالعين المجردة، فيقع فيما سماه ابن خلدون قديماً (الذهول (= الغفلة) عن تبدل الأحوال). إلا أن تويني ما يفتأ ينقب في الأسباب العميقة، سواء في افتتاحيته أو فيما ألفه من كتب حول أحداث عربية ودولية حاسمة. وقد عايشها عن كثب. فقد شهد قرار تقسيم فلسطين وهو ابن العشرين حين كان مراسلاً للنهار في الأمم المتحدة حين أصدرت قرار التقسيم. لقد كان هذا الحدث من الأحداث المهمة التي أثرت بعمق وعلى المدى البعيد على الواقع العربي المعاصر. لقد وصف تويني هذا الحدث بأنه (جسر بين حياتين) والذي كانت نتائجه كارثية على لبنان أكثر من أي بلد عربي آخر. فقد استقبل لاجئي فلسطين لعام 1948، ونازحي 1967، والتجأ إليه مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية بعد إخراجهم من الأردن، وكان الفلسطينيون طرفاً في الحرب الأهلية في لبنان التي اندلعت عام 1975، ثم احتلال إسرائيل لجنوبه وأخيراً (وهل آخراً؟) حرب يوليو- تموز على لبنان الصيف الماضي.

بعد عام على ضياع فلسطين قام حسني الزعيم في سوريا بانقلاب عسكري تحمس له غسان تويني الذي صفق آنذاك مثل جيل بكامله للانقلابات كطريق إلى تحرير الأرض من الصهاينة وكثورة لإحقاق العدل. وقد وضع في غمرة حماسه سلسلة مقالات جميعها في كتابه (منطق القوة) حيث كان تحت تأثير (استهواء الانقلابات وتأثيرها على خيالنا) كما يقول. لكنه بعد سلسلة الانقلابات التي لم تحرر أرضاً ولا نشرت عدلاً اقتنع بأن التربية الديمقراطية حاجة يتطلع إليها الناس في بلداننا، فإن الصحفي أحوج الناس إليها إذا بدونها لا يستطيع أن يمارس مهنته وكما ينبغي أن تمارس.

ذات يوم وغسان تويني لا يزال طالباً، حمل مقالاً لوالده صاحب النهار للنشر. لم ينظر الوالد الصحفي العصامي إلى المقال بل مزقه، قال لابنه إذا اخترت أن تكون صحفياً فلتتعلم المهنة من بدايتها، وسلمه إلى أحد معاونيه ليدربه في مختلف أقسام الجريدة ومراحل (طبخها). الوالد جبران نفسه بدأ مصففاً ومحرراً صغيراً قبل أن يصدر جريدة (الأحرار) سنة 1924. ثم أصدر (النهار) عام 1933. وقد تقلد مناصب سياسية ودبلوماسية فكان نائباً ووزيراً وسفيراً كما سيكون ابنه أيضاً نائباً ووزيراً وسفيراً لبلاده في الأمم المتحدة في مرحلة صعبة إبان الحرب التي سماها حرب الآخرين على أرض لبنان.

الصحافة مختبر للحرية. وطريق الصحافة إلى الحرية طويل وعسير، لاسيما الآن إذا لم تعد الصحافة تواجه فقط سلطة تراقب وتصادر وتقمع، بل أيضاً تيارات خارجة من أحشاء كل ما هو متخلف في المجتمع، تقوم بالاعتداء على دولة الحقوق والمؤسسات.

الصحافة تشترط وجود الحرية. وإلا كانت مجرد دعاية، وليس معنى ذلك أن الصحافة تنتظر وجود جو الحرية لكي توجد، بل معناه أن نضالها اليومي من أجل الحرية هو أيضاً نضالها من أجل أن تكون مهنتها في حرية الخبر والرأي والتعليق ممكنة. قد يقال إن حرية الصحافة إذا أطلقت على عوانها فإن الصحفيين كسائر الناس فيهم ذوو الاستقامة، كما أن بينهم من يستعملون قلمهم للابتزاز وتصفية الحسابات والتشهير بأعراض الناس، لكن مبدأ الحرية هو سقفها أيضاً، فحدودها تنتهي حيث تبدأ حريات الآخرين وكرامتهم، وحرية الصحافة تقتضي وجود قضاء مستقل يحمي كرامة الناس من الابتزاز والتشهير والكذب، فلا صحافة مستقلة من غير قضاء مستقل، وأيضاً من غير أخلاقيات للمهنة يصونها أصحاب المهنة قبل غيرهم.

غسان تويني لا يحب عبارة (الحرية المسؤولة) لأن الذين يرددونها هم عادة أصحاب السلطة الذين يقمعونها بدعوى جعلها مسؤولة، أي مسؤولة أمامهم وتحت رحمة سلطتهم. الحرية هي حرية وحسب، حدودها احترام حرية الآخرين، ورادعها ضد الشطط هو قضاء مستقل وتعاقد أخلاقي بين أهل المهنة.

غسان تويني من صناع الرأي العام المتشبع بالقيم الديمقراطية. ذلك أنه لا رأي عاماً حقيقياً إلا في نظام ديمقراطي. ليس فقط لأنه نظام مكفولة فيه الحريات العامة بما فيها حرية الصحافة، وإنما أيضاً لأن الحكومات فيه تصنعها وتسقطها صناديق الاقتراع. بعض الأنظمة العربية تسمح بهامش من حرية الصحافة، إلا أنها تظل تراقب الانتخابات (إذا وجدت) فلا تداول للسلطة ولا تأثير لصناديق الاقتراع في مجيء أو ذهاب الحكومات، وكان لسان حالها يقول للصحفيين: اكتبوا ما شئتم فأنا باقية أفعل ما أشاء!

الرأي العام الذي يريده غسان تويني ويعمل من أجله هو رأي عام ديمقراطي، في مواجهة رأي عام آخر غوغائي مسُوق بمعتقدات مناقضة للديمقراطية. وغسان تويني هنا إنما يستأنف مشروع النهضويين -وهو يرجع إليهم ويذكرهم كثيراً- أولئك الذين طالبوا بحرية الرأي والتعبير، ورفع الحجاب عن المرأة، وغير ذلك من سمات الحداثة التي سموها بمصطلحهم (التمدن).

إن الذين كتبوا عن رواد النهضة أبرزوا دور المفكرين الذين جددوا الفكر الديني أو نشروا أفكارا حديثة إلا أنهم لم يهتموا بدور الصحفيين سواء في تحديث اللغة وتقريبها من التعبير عن الحياة اليومية أو في مواجهة الاستبداد.

والنهار رائدة في هذا المجال. فقد رفعت مقاييس المهنة في اللغة الصحافية وصياغة الخبر وحرية الرأي والتعليق. وغسان تويني خصم عنيد للاستبداد لأنه يصادر حريات المواطنين وحقوقهم الأساسية وحسب، وإنما أيضاً لأنه نفي لحرية الصحافة، وحقها في الوصول إلى المعلومات، وكل الشروط التي تجعل مهنتها ممكنة. وتلك رسالة غسان تويني وجريدة النهار التي رفعت مقاييس الصحافة العربية إلى ما ينبغي عليه أن تكون.

* سفير المملكة المغربية في لبنان


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة