Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

شاعر الديموقراطية
عباس بيضون*

 

 

لا نمدح غسان تويني إذا قلنا إنه شيخ الصحافيين اللبنانيين. أظن أن في هذا شهادة للصحافة اللبنانية اكثر منها لغسان تويني.

لا تستطيع الصحافة اللبنانية وبالتالي الديمقراطية اللبنانية إلا أن تأخذ من ضعف لبنان وهشاشة توازناته، لكن بقاء الاثنتين وعنادهما هما اللذان منحاهما تاريخا واستمرارا.

ولا شكّ أن في وجود رجال كبار، ديمقراطيين وجمهوريين وصحافيين هو الذي اجترح من الضعف قوة، وجعل الديمقراطية اللبنانية حقيقة قائمة.

يريد غسان تويني أن يكون أولاً صحافياً.

وجود أشخاص مثله جعل الصحافة في هذه المكانة.

وجود صحيفة كالنهار جعل الصحافة اللبنانية من أعمدة الجمهورية، لذا فإن دين غسان تويني على الجميع حقيقي وأكيد.

نيف غسان تويني على الثمانين التي جعلها الرجل بنشاطه وتعدده مضاعفة ومفعمة.

إنها قرن كامل يمشي على قدمين والأرجح إننا حين يتسنى لنا أن نعيد قراءة تاريخ لبنان، أو يتسنى لنا قبل ذلك وضع تاريخ حديث للبنان، فإن الوقائع ستبدو مقلوبة تماما ومنافية لعرضها.

سنرى حينها أن لبنان الحديث صنع في غير المواضع التي ليس فيها سوى صخب فارغ.

صنع حيث تم بدون هوادة عمل منتظم.

لا بد أن الصحافة بين أكبر صانعيه.

فيما كان الجميع يتخبطون ليعرفوا ماهية عملهم، السياسيون بالدرجة الأولى، معظمهم على الأقل، يتخبطون في خيطان العنكبوت التي صنعوها لأنفسهم، فإن الصحافة بنت عمارة منتظمة، لقد وُجدت من اللحظة الأولى هدفاً واستمرت عليه، وها هي اليوم ضمانة أولى لبقاء لبنان.

حين يتسنى وضع تاريخ حديث للبنان سنرى غسان تويني بين قليلين يمكنهم أن يقولوا:صنعنا بلداً.

الصحافي، السياسي، الدبلوماسي، الحاكم، المفكر.

إنها وجوه عدة لغسان تويني.

وإذا آثر الصحافي عليها فقد عمرها كلها، وتوسع فيها، لكنها جميعها متكافلة متضامنة.

ليس السياسي سوى الصحافي نفسه وقد انتقل من الشهادة إلى الفعل. أما الديبلوماسي فهو الصحافي أيضا وقد حول فنه إلى تنصت وحوار.

ولم يكن تويني صحافياً بقدر ما كان وهو ديبلوماسي.

والحاكم أيضا فيه شيء من الصحافي الذي حمل إلى الوزارة تطلعات الجمهور وعارض وشاغب من داخل الحكم.

أما المفكر فهو جماع تأمل وانخراط وممارسة ومعرفة عن كثب، الصحافة قاعدتها الأولى.

ولنقل أن تعدد تعدد غسان مظهرٌ آخر للوحدة.

إنه في جميع ذلك كله مختلف.

لقد مارس الحكم على سبيل المثال كما لم يمارسه أحد.

تسنى لي أن أشاهده وهو وزير تربية يحاور الطلاب، يحاورهم حقاً ولا يجاملهم أو يتوسل حبهم، ينتقدونه وينتقدهم ويأخذ ويعطي ثم ينزل عند طلبهم، كان هذا الحوار المباشر نموذجاً آخر في ممارسة السلطة بقي للأسف استثناء، كما كان تطلعاً إلى ممارسة مختلفة لم تتحقق بطبيعة الحال، فالطبقة السياسية اللبنانية دون ذلك بكثير.

لكن إذا كان لنا أن نجمع غسان تويني في صفات قليلة قلنا إنه حديث وديمقراطي ومعارض بالطبع وهذه الصفات هي عناوين كبيرة للمستقبل اللبناني.

فقد كافح لبنان طويلاً، واخفق كثيراً مقابل نجاحات ضئيلة؟، ليكون حقاً حديثاً وديمقراطياً، ومستقلاً.

والأرجح أن الحروب الكثيرة التي خاضها بالرغم منه غالباً كانت على هذه الطريق.

حديث وديمقراطي ومستقل هو غسان تويني وهذا هو المثال الذي شاءه للبنان فغسان تويني الذي دخل المعترك مع الاستقلال اللبناني شارك بجدارة في تأسيس للبلد لا نزال نستأنفه جيلاً بعد جيل، لكن تويني ببصيرة نافذة أرسى من البداية مبادئه الأولى: الدولة، الحداثة، الديمقراطية، الاستقلال.

لقد كانت هذه في الواقع ركائز الحلم اللبناني، وكانت ولا تزال أسس مشروع مستديم لم تطوه الحروب.

لا أعرف إذا كانت الليبرالية مصطلحاً مناسباً لكني أحسب أن غسان تويني مثله مثل كل الملهمين في هذا البلد خاض معركة بلا جنود.

يحارب اللبنانيون في سبيل كل شيء إلا الديمقراطية والحداثة والدولة. لذا كان ديمقراطيو هذا البلد هم أيضا شعراؤه.

إنهم يحلمون ويواجهون وحدهم.

وغسان تويني هو على هذا شاعر الديمقراطية، وككل الشعراء كان عليه أن يحلم وحده ويواجه وحده ويجعل من طبيعته وجسده نموذجاً ومثالاً.

لا يحارب اللبنانيون من أجل الديمقراطية والدولة والحداثة لكن الحروب الأخرى تخسر وبعد كل حرب يبقى أمامنا الحلم نفسه والرجل نفسه: غسان تويني.

تحولت الديمقراطية والحداثة والدولة إلى حياة شخصية ومأساة شخصية.

غسان تويني يخسر عائلته على طريق الحلم والشعر والحرية، لكنه في ذلك وتحت أجنحة الملحمة يظل يرى ويدلنا إلى الطريق.

*إعلامي وأديب لبناني


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة