Culture Magazine Monday  04/02/2008 G Issue 232
فضاءات
الأثنين 27 ,محرم 1429   العدد  232
 

خطوط في رمال الثقافة
أي شعر؟ لأي معنى؟
علي الصراف

 

 

قيل لنا إن الشعر هو (كلام جميل، موزون ومقفى) ولكن في وقت كان العالم كله يتداعى من حولنا.

المتغيرات العنيفة التي رافقت نشوء الدولة الحديثة في العالم العربي، كانت هي التي نسفت قافية الشعر وبددت عروضه. من هنا جاء بدر شاكر السياب ونازك الملائكة. ومن هنا بدأ الحشد الثقافي العربي يحتشد بالأسئلة، ليس حول الشعر، أدواته ومعانيه، بل حول كل شيء آخر أيضاً.

لقد كنا نقف حيال عالم جديد، تتجاوز أغراضه بكثير أغراض الشعر المألوفة، ونكتشف فيه بعداً آخر للإنسان. غادر الشاعر العشيرة، فلم يعد صوتها. صار صوت نفسه. وما كان يبدو جحيما بقول طرفة بن العبد: (إلى أن تحامتني العشيرة كلها، وأفردت إفراد البعير المُعبّد) صار هو الفردوس المنشود.

جبران خليل جبران، في (النبي) على الأقل، قدم التعليل الاجتماعي للرأسمالية، في تلك الفردية التي لا تفر هاربة إلى الذات وحدها. ولكنه كان مثل الكثير من الشعراء الذين ظلوا يتمايلون بين (قضايا) قومية ووطنية، وبين (قضايا) الإنسان نفسه.

وبدا أن الشعر القديم، بأدواته وأغراضه، صار هو نفسه أطلالاً من أطلال خولة التي (تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد).

هكذا بدا الأمر. أو هكذا (شُبه لهم) أولئك الحداثيين الذين، وإن قدموا محاولات ثرية لتبرير الحداثة وقضاياها و... شعرها، إلا أن معضلتهم مع الواقع ظلت عسيرة للغاية. فلم تشفع في تبرير أجوبة جذرية مسبقة لأسئلة لم تطرح من بوابة التجديد الحقيقي للاقتصاد والسياسة والمجتمع.

وهكذا ظلت المعركة مفتوحة ليس لكل المحاولات والأجوبة فحسب، بل ولجميع الاضطرابات وأعمال الشغب الشعرية أيضاً.

وللمفارقة، فمثل طرفة نفسه، كنا كما كان: (نرى العيش كنزا ناقصاً، وما تنقص الأيام والدهر ينفد).

كنا نريد كل شيء. وفوراً. وإذ تركنا المستعمرون وحدنا في دار دولة الاستقلال والسيادة، فقد انقلبت مدافع المعركة لا لتقصف الآخر، وإنما لتقصف الذات، ومعها الثقافة والتراث والتاريخ وتثير حولها كل الشكوك والشبهات التي حوّلت مخاض الحرية إلى ساحة اتهام، لا معترك بناء.

أما القصف الثقافي، فقد كان، لسوء الحظ (والمقاصد ربما)، من ذخيرة الآخر نفسه. وكان ذلك، بحد ذاته واحداً من مشكلات الشرعية، أو اللاشرعية بالأحرى، التي أسمهت في إيجاد الشرخ العميق الراهن في بنية الفكر والثقافة والسياسة العربية. وهو شرخ تكاد كل مظاهر حياتنا الراهنة تدل عليه، من حجاب المرأة وسفورها إلى الموقف من النظام الاجتماعي - السياسي.

لقد كنا، ونحن نبحث عن مخارج للتغيير، من أجل أن نلحق بالآخر ونشابهه تقدماً وثراء، نركل كل ما نراه حولنا. فكسّرنا أثاث البيت كله. وأحرقنا الدار بعد تمرد.

ولم تلق كل الأسئلة إجابات قمينة بالتعبير عن المشاغل الحقيقية للشعر، بوجه خاص، وللثقافة بوجه عام.

وبرغم أن التقدم كان يجب أن يتحقق بأشكال مادية أولا، وليصنع هو معانيه وأدواته الثقافية، في معتركات الحياة نفسها، إلا أن حداثيينا ظلوا يندفعون إلى (الأمام) فقط. ومن قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، كان من غير المهم تماماً، ما يجري على الأرض من انهيارات وفشل. بل وكلما زادت انهياراتنا تطرفاً، كانت (أبنية) الشعر العشوائية تزداد تطرفاً هي الأخرى. وبدلاً من أن يصبح (الأمام) نقدا ل(الوراء)، صار وراءً هو نفسه، وضاعت الجهات كلها.

أنظر إلى آخر مبتكرات الحداثة الشعرية، وستلاحظ الضياع مجسداً، وكيف يتدلى المعنى من حبل مشنقة اللغة.

هل كان ذلك تعبيراً عن الاغتراب؟ أم تغرباً قصدياً لتحاشي المسؤولية عن الفشل وللتبرؤ من تبعاته؟

المسألة هي أن المتداول الثقافي لم يكن مرآة حقيقية لمعترك النضال من أجل التحديث. ولا حتى دليلاً لما يجب أن يكون. بل مجرد بيان انقلابي أول، يقترح كل ما لا يمكن، ويطالب بكل ما لا يستقيم، وأسوأ من ذلك، بلغة غير مفهومة أيضاً.

وبدلاً من إنتاج المعرفة، سرعان ما أصبحت الثقافة وسيلة لإنتاج عدم الفهم. ومعها جاءت قضايا (الديمقراطية) و(العلمانية) و(حقوق الإنسان) لا لتكون مداخل للتجديد حقاً، وإنما مجرد وسائل للهروب إلى (الأمام) من تلك المعضلات المادية التي لم نجد سبيلاً صحيحاً لمعالجتها على أرضها، كمعضلات مادية.

وبطريقة ما، صار التجديد الثقافي، صنوا لنزعة انقلابية، نظّر لها الشعراء و... صنعها العسكر. حتى إذا ما قررنا المضي فيها قُدما، انتهينا منها إلى حرب أهلية، كان من الطبيعي، في آخر المطاف، أن تأتي بصحبة دبابات المستعمرين إياهم.

مع ذلك، فإن المعركة ما تزال مفتوحة على منعطف آخر. ربما لم تنضج عناصر الإفصاح عنه بعد، ولكنه آت لا ريب فيه.

فنحن، إذ لم نفهم بوضوح دواعي المفارقة الجمالية بين الشعر والمعضلات المادية للنظام الاجتماعي، فإننا لن نستطيع تحاشي الانقلابات في المفاهيم والمفاضلات الثقافية.

ولم يكن ثمة مجال للشعر على حافة الإنهيارات الأخرى. ولقد تطلب الأمر من جميع أولئك الذين تبللوا بالكلمات واللغة أن يجدوا منفذاً آخر لشاعريتهم، وأن يحفروا نفقاً للتغيير يمر من تحت الكيان الشعري المفجوع بالهاوية. فعاد الكثير منهم إلى قصيدة العمود الكلاسيكية.

الآن، ربما لم يعد مهما أن يصل المرء إلى نهاية النفق أو لا يصل. فالضوء الذي قد تقترحه المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية قد لا تُرى ذبالته في أفق النزاعات الطائفية، إلا أنه لم ينته شعراً. فقد صمتت الحداثة. أصيبت بالصدمة. ثقافة الآخر تحولت إلى دبابات. وانكسر مشروع التحديث، واندحرت قصيدة النثر إلى شيء من قبيل مقتدى الصدر، لا وقت لديه، في غمرة أعمال ال....، حتى لكي يصلح أسنانه المعطوبة أو يستخدم معجون أسنان لتنظيفها.

أي شعر إذن؟ لأي معنى؟ وفي أي بيئة؟

لم يعد مهماً أن نصل إلى نهاية النفق. ولا أن يملس المرء حقيقة الأشياء من ضلالها. أن يغير بالفعل، أو في مكانه ينقبر. صار يكفي أحياناً، أن يخرج من تلك الزاوية، ليجد نفسه محشوراً بين خيارين: يقول ما يحلو له القول عبثاً، أو يُبقي على ذلك التصور الردئ للعالم الذي تقترحه حداثة الديمقراطية الشعرية. وهو تصور لم يكن ليفضي، في النهاية، إلا إلى قالب، أفظع ما فيه إنه قالب للعقل، قالب للروح، قالب للرؤيا، قبل أن يكون قالباً للجسد.

كان على الشعر ربما أن يعود ليكون جنوناً، ولكن عاقلاً. فالحاجة إلى التعبير عما لا يمكن التعبير عنه بأدوات وأغراض قديمة، لم تلغ شرعية تلك الأدوات ولا حتى أغراضها.

وفي بيئة ما تزال الأرض فيها تغتصب، والنساء تغتصب، و... الرجال أيضاً، فإن صوت الشاعر الذاوي خلف أمواج فرديته العاتية، صار هو نفسه فضيحة ليست أقل سوءاً من فضيحة أبو غريب.

غرور القول وأنانيته قد يدفعان الشاعر، لا ريب، لمحاولة رسم صورة حسية تعجز عن تحسسها العيون، ولكن أساساً ليخرج من ذلك القفص المميت، قفص المدركات المقننة، فيكون مصدراً لمعنى؛ ويكون منتجا لقيم.

الشعر قد يكمن في هذا الخروج وفي السعي لاختلاط الحواس، وقد لا يكمن هنا، لا أعرف، إلا أنه لن يُكتب، على أي حال، بعشر وصايا نقدية وعدد لا يحصى من النصائح المجانية.

الوظيفة هي ما يهم. لا الشكل.

ولأنه نوع من جنون الرؤية، فقد كان من لزوم ما يلزم أن يجد الشاعر سبيلاً لتصوير خارق، أو غير خارق، إلا أنه يعي مشاغله وبيئته وعالمه على الأقل، ليحاول أن يكون منتجاً لثقافة؛ لفهم؛ لشيء يستحق أن يبقى.

الشعر، ربما، هو ذلك الإصبع الذي إذا وضعته على مجرى النزيف، فانه يصير بلسما. هو ذلك المعنى الذي إذا ما أدركته، تغيّر المعنى الذي حولك. وهو إذ ينقّب في أحاسيس الأشياء عن صدقها، فإنه قد يركل العالم بكلتا قدميه، من أجل التغيير والتجديد، إلا أنه لا يركل معناه ووظيفته الإنسانية.

الشعر، ميدانه هناك، بين الناس، ليعود صوتهم، (فإن تبغه في حلقة القوم تلقه، وإن تقتنصنه في الحوانيت تصطد).

- لندن


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة