Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

شخصيات عدة في رجل واحد
نايف حواتمة*

 

 

الحديث عن غسان تويني لا بد أن يتشعب ليطال الشخصيات المتعددة المتوحدة في رجل واحد؛ فهناك غسان الصحفي، وغسان السياسي، وغسان الأب، وغسان المفكر، وغسان رجل الأعمال (وهذه صفحة حميدة خاصة إذا سخرت في خدمة الصحافة والثقافة والفكر والفن).

لا أعتقد أن ثمة قارئاً لا يعرف من هو غسان تويني، وما هو الموقع الذي يحتله في عالم الصحافة اللبنانية خاصة والعربية عامة، حتى يمكن القول إن تويني أسس مدرسة صحافية خاصة، تستحق أن يطلق عليها اسم مدرسة غسان تويني.

وتتسم مدرسته الصحفية بالموضوعية أولاً، وبالجرأة ثانياً، وبالاعتماد على الذات والاستقلالية ثالثاً، كما تتصف بأنها مدرسة لديمقراطية الرأي وحريته، تفتح أبوابها لمختلف الآراء، تلك التي تتفق معها أو تلك التي تختلف.

غسان تويني، رغم أنه ابن جبران الكبير، صاحب الباع الطويل في تأسيس الصحافة اللبنانية، إلا أنه بدأ مشواره من العتبة وأخذ يتسلق سلّم عالم الصحافة درجة درجة. حين دخل صحيفة والده، كما يقول، متأنقاً، باحثاً عن النجومية، تلقى درسه الأول في التواضع، وضرورة بذل الجهد والمثابرة، والاعتماد على الذات؛ فقد أمره والده بخلع سترته، ورفع كميه، وتلويث أصابعه بحبر المطبعة، مؤكداً له أن من لم يتلوث بهذا الحبر، لن يعرف له قيمة؛ وبالتالي لن يكون صحفياًَ حقيقياً؛ فالصحافة جهد، ومثابرة، وصبر، ومعاناة، ودفاع عن الكلمة واحترام لها. لا يجوز التفريط بها هنا أو هناك، ولا يجوز عرضها في سوق النخاسة، للبيع كما يباع الرق. ولعل هذا ما أرسى لدى غسان مبادئ الاستقلالية خاصة حين تعرضت صحيفة النهار إلى ضغوط الشعبة الثانية في أحد العهود في لبنان، لتغير في خطها وتقترب من أصحاب القصر. النهار اقتربت أكثر فأكثر من مصالح الناس؛ فنجحت في التصدي لضغوط الشعبة الثانية وزادت مبيعاتها، وارتفعت أرباحها، رغم أنها حوصرت حصاراً قاتلاً حين نجحت الشعبة الثانية في الضغوط على أصحاب المصالح لحجب إعلاناتهم عن النهار لتدميرها مالياً.

ورغم اختلافنا مع تويني الصحفي في العديد من مقالاته، إلا أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وبالتالي بقينا نطل كل صباح على الحالة السياسية في لبنان من نافذة (النهار) الزرقاء، إما في افتتاحية غسان، صباح كل اثنين، أو في العناوين الرئيسية والتي تشكل هي أيضاً افتتاحية أخرى للنهار.

وتويني السياسي - بتقديرنا - لا يختلف عن تويني الصحفي. فلقد تقلب في مناصبه السياسية من وزير في أكثر من حكومة إلى ممثل للبنان في الأمم المتحدة إلى نائب في البرلمان اللبناني.

ولست أدري أي من الشخصيتين هي التي تغلبت على الأخرى لدى غسان تويني هل هي شخصيته السياسية التي تغلبت على الصحفي أم هي شخصية الصحفي التي تغلبت على السياسي أم أن الشخصيتين اندمجتا لتشكلا شخصية ثالثة فريدة في نوعها هي الشخصية المميزة لغسان تويني؟ فربحت شخصية السياسي من الصحفي ثقافته وشجاعته وفصاحته، ولباقة صياغته. وربحت شخصية الصحفي من السياسي التزامه بمبادئه وقناعاته ورسالته التي من أجلها سخر جهوده. من منا، على سبيل المثال، لا يتذكر كلمات تويني البليغة في أروقة الأمم المتحدة وفي مجلس أمنها وجمعيتها العامة. ومن منا لا يذكر خطاباته المفعمة بالحيوية تحت البرلمان في ساحة النجمة في قلب العاصمة اللبنانية ببيروت. وكذلك من منا لا يذكر كيف لبط الوزير تويني كرسي الوزارة وخرج من بين الوزراء، وتحت سمعهم وبصرهم، لينضم إلى طلبة الجامعات وأساتذتهم المضربين مطالبين بإنصافهم. هنا تغلبت على تويني شخصية الصحافي الذي انحاز إلى الشارع، فجر معه شخصية السياسي. ولعل هذه الخطوة هي التي استدعت غضب السلطة ضده، فتعرضت صحيفته إلى ما تعرضت إليه من حصار.

وتويني الأب يشكل شخصية تراجيدية تذكرنا بالشخصيات الإغريقية التي يعاندها القدر؛ فتعانده وتنتصر عليه. خسر زوجته الشاعرة ناديا حمادة تويني باكراً ثم خسر ابنتيه الواحدة تلو الأخرى، الأولى تحت تأثير المرض والثانية في حادث سيارة. ثم خسر ابنه الوحيد جبران في عملية اغتيال جبانة أودت بحياته في ساعة مبكرة من إحدى الصباحات اللبنانية الحزينة. وإن كنا نختلف مع جبران في مواقفه وفي تطرفه، إن كنا نحن الفلسطينيين قد تلقينا بصبر سهاماً كثيرة أطلقها ضدنا - ظلماً - الراحل جبران، إلا أن مبادئنا، وقناعاننا السياسية، تلزمنا دوماً برفض مبدأ الاغتيالات؛ لذلك كنا في مقدمة من أدان اغتيال جبران، الصحفي، والسياسي، والنائب الذي حاول أن يشق طريقه، متتبعاً آثار والده لكن القدر لم يمنحه الوقت الكافي.

رغم وطأة الحديث، بقي غسان تويني صامداً، يستقر الحزن في صدره، ويبدو فاضحاً في عينيه، لكنه وضع حزنه جانباً، وواصل مسيرته التي بدأها، فكافأه لبنان (وإن كانت المكافأة متواضعة) حين زكاه إلى البرلمان، وريثاً لمقعد ولده. وواصل دوره في إطفاء الحرائق، وتقريب وجهات النظر، حريصاً على مصالح بلده، بعيداً عن الأضواء، متكتماً، وكأنه يكفيه أن يطل على الرأي العام صباح كل اثنين من على شرفة النهار في قلب ساحة الشهداء في بيروت العظيمة.

وتويني رجل الأعمال نحج في تحويل مشروع صحفي متواضع إلى مؤسسة صحفية مزدهرة. صحف بالعربية والفرنسية، مجلات، كتب، دوريات، صرح ثقافي يحرص الساسة ورجال الفكر أن يكونوا على صلة دائمة بإصداراته.

أن يتحول المشروع الصحفي إلى مؤسسة حديثة، إنما يعبر عن احترام للصحافة وحرص على مستقبلها، وهو ما يؤكد أن (النهار) ستبقى شامخة، يتوارثها جيل بعد جيل، فتصبح ملكاً لقرائها لا ملكاً لصاحبها.

أخيراً، وليس آخراً. إلى تويني وقد تجاوز الثمانين من عمره، تحية من شعب فلسطين. يشكر على كل كلمة قالها أو كتبها دفاعاً عن القضية، ولا يلومه إن هو اختلف مع أصحاب القضية؛ فهو رجل قلم وفكر... وشعب فلسطين ممن يقدسون القلم والفكر والتعددية السياسية. ولنا في إنجازاته مثال كم نأمل أن نراه يتكرر فوق أرض فلسطين وتحت سماء القدس عاصمة دولتها المستقلة.

* الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة