Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

سياسي عتيق متجذر في التاريخ
منح الصلح *

 

 

سماه والده جبران التويني، مؤسس جريدة النهار، (غسان)، ترشيحاً له لأن يكون في وطنه العربي الكبير نجم الدور اللامع العريق الذي لعبه الغساسنة في التاريخ العربي. وبالفعل ما كاد الفتى ابن جبران يلمع سباقاً في جيله، حتى ارتأى فريق من وطنيي سوريا ولبنان، المتعاونين في ذلك الزمن في الجهاد ضد الانتداب الفرنسي، أن ينزلوا هذا الاسم غسان في صلب النشيد الشعبي الوطني الشهير، المعتمد من الجماهير والشبان والشعوب في تلك الفترة: (بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان إلى نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان) فبدلاً من أن يقال كما في النص الأصلي للنشيد، قحطان وعدنان، راحت أصوات من الجماهير والشبان تعدل أحياناً النص المهتوف به، ليصبح غسان وقحطان أو غسان وعدنان، بدلاً من عدنان حيناً وقحطان حيناً آخر. والحكمة من ذلك عند أصحابها، توجيه تحية من خلال اسم غسان لتلك المملكة المجيدة في تاريخ بلاد الشام والعرب عامة، المعروفة بالغساسنة.

والواقع أنه قد كان لتلك الحكمة الشعبية الوطنية بإدخال كلمة غسان في صلب النشيد الجماهيري بدلاً من عدنان حيناً وقحطان حيناً آخر، أثرها في إذكاء الحماسة الشعبية الشاملة لمقاومة الأطماع الأجنبية في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق ومع البلاد العربية عامة، بحيث يشعر الجميع من كل الأديان والبيئات، أن قضاياهم هي واحدة، وبالتالي ليس لهم إلا أن يتماسكوا في ما بينهم، بدءاً بأسمائهم في وجه الغزاة الطامعين ببلاد العرب.

هذا والتوينية كانت هي أيضاً منذ البدء كالغساسنة حقيقة عربية متجذرة.

كان جبران الأول كما ابنه غسان، يريان دوراً كبيراً أيضاً ومنسياً قليلاً لنهضة العرب الحديثة التي كثر فيها من يؤهلهم تكوينهم الجغرافي والتاريخي ومستواها لأن يكونوا أساس عمل عروبي قيادي لا يشيخ.

لن يكون بالطبع، مغيباً أو مجهولاً ذاك الدور المرتجى من الفتى الأنيق فكراً وروحاً غسان وقومه اللبنانيين، لا في القاهرة ولا في الرياض، ولا من غيرها، فهو يبقى مكملاً ضرورياً لهاتين، ومن منظار تاريخي.

أتذكر بالمناسبة تلك المناسبة اللامعة في زمانها التي صحبت فيها غسان إلى القاهرة، احتفالاً بمرور مئة سنة على تأسيس دار الهلال. كنت في صحن الفندق العتيق، المختار مكاناً للاحتفال بمئوية تأسيس دار الهلال مع مجموعة من الصحفيين والساسة والأدباء والمفكرين العرب المصاروة وغير المصاروة، عندما أطل على الجمع غسان، هابطاً إلى الردهة على درج الفندق بأناقته وسحر شخصيته واسمه واسم جريدته، فإذا واحد من المجموعة من الكتاب المصريين يلفتنا جميعاً نحن المجتمعين في القاعة، مطالباً إيانا بالتطلع إلى فوق، إلى الرجل الأنيق الهابط على درجات السلم إلى حيث نحن، قائلاً باللهجة المصرية: (بصوا الجدع بتوع لبنان ينزل درجات السلم إزاي، كأنه واحد من أمراء زمان). وقد بقيت هذه الكلمات في ذهني شعوراً مني بأنها ما كانت إلا صادرة من عقول تلك النخبة وقلوبها، تذكيراً وحنيناً إلى عصر بكامله هو عصر النهضة العربية التي كان اللبنانيون الساكنون في مصر من صلب صناعها.

بين صفحات التاريخ البرلماني اللبناني، يكاد يصح القول إنه ليس في تاريخ الشارع السياسي اللبناني والانتخابات البرلمانية اللبنانية، ظاهرة مشابهة لذلك الحدث الانتخابي التاريخي الذي هو وصول غسان التويني الشاب الخارج بالأمس القريب من الجامعة إلى النيابة عن منطقة الأشرفية، منتصراً على أحد أكبر ساسة لبنان في زمانه، النائب والوزير والرئيس حبيب أبو شهلا.

كان غسان، سواء في ميدان الأدب أو الفكر النظري فضلاً عن السياسة، أحد الرموز الألمع دائماً، وهو عندما أخذ مكانه كصاحب جريدة النهار، الأولى بين الصحف اللبنانية في زمانها، إلى جانب الأوريان الفرنسية، حقق قفزة مهمة في تاريخ الصحافة اللبنانية، ولا تزال النهار، وإلى جانبها السفير، في طليعة صحف لبنان، وغسانها هو هو في السياسة والثقافة والصحافة وحب لبنان النهضة والنصير لها في كل زمان ومكان.

ين جبرانين لامعين، واحد بالريادة هو جبران الأول مؤسس النهار، والثاني بالشهادة رمز الانتفاضة السياسية المستمرة في لبنان اليوم، من أجل السيادة الوطنية، احتل غسان التويني دور المنارة المستمرة بالعطاء السياسي والمهني والأدبي بسخاء ويقظة وقسوة على الذات لا يقدر عليها إلا القلة من التاريخيين.

ولعله حدث بلا شبيه في تاريخ الحياة السياسية اللبنانية الانتخابية، ذلك الحدث الذي صنعه غسان في مطلع حياته السياسية العامة؛ فقبل الاستقلال اللبناني عام 1943 كان حبيب أبو شهلا، نائب بيروت الأورثوذكسي والوزير ورئيس المجلس النيابي في فترة، قد أخذ مكانه الراسخ في الطليعة من ساسة لبنان ونجوم مجتمعه وخطبائه وزعماء شارعه عندما أطلق الشارع السياسي لمدينة بيروت، مزاحماً له، محمولاً على أكتاف الفتوة، مستحيل التراجع، مؤيداً من خاصة مجتمع المدينة وعامته، هو الشاب غسان ابن جبران التويني، الخارج بالأمس القريب من الجامعة إلى النيابة مرشحاً عن منطقة الأشرفية، لامعاً على طريقته في عالم الفكر والثقافة والسياسة، مكرساً منذ اللحظة الأولى لورود اسمه، كصاحب تيار شعبي مستعصٍ على التسليم لغيره، وجهاً لتمثيل المسيحية العربية المتجذرة في تراب العاصمة بيروت والمنطقة.

كان على غسان الفتى أن يواجه في أول نزول سياسي شعبي له، من أجل الانتخاب النيابي، أحد أولئك الساسة المميزين المكرسين الذين عطر الزمن رؤوسهم وهم في السلطة بعطر الميثاق ولمعة الاستقلال الجديد. لم يكن حبيب أبو شهلا منهم تماماً بالأصل، ولكنه نجح في أن يدخل نفسه بجدارة في المعادلة اللبنانية ويلمع بقوة كواحد من نجومها بما أعطاه الله من قامة بالمعنيين المادي والمعنوي وجاذبية وطاقة على التحرك السياسي والعمل العام والخطابة البرلمانية باهرة للقريب والبعيد. كان يبدو جباراً، مكرساً، أقوى من أن يطال أو يزاح من مركزه في زعامة أورثوذكس العاصمة. فإذا التيار الشعبي للمدينة بيروت وخيار طلائعها يقذفان في وجهه فتىً من أبنائها، هو غسان، معطراً بمجدها القديم المفقود، ونسائم مستقبلها المطل، هي عاشقة التألق تريد من فتاها أن يأخذ القيادة ليكون شارعها السياسي ويستمر متجدداً، قادراً على تجاوز ذاته في الدور الطليعي للبنان ومحيطه العربي.

شعر السياسي العتيق المتجذر في السياسة اللبنانية، حبيب أبو شهلا، أن الشعب كله في مدينة بيروت سوف يكره انتصاره على غسان التويني إذا هو انتصر، وأن الشعب كله قد يشركه في مجد الانتصار إذا هو انسحب لغسان؛ فاختار السياسي المعتق الكبير حبيب أبو شهلا مجد مواكبة الزمان بالتنازل أمام غسان الظاهرة غير المشبوهة والإقلاع عن الاستمرار في معركة سيفهمها الشعب إذا انتصر على أنها انتصار عليه، خصوصاً أن هذا النصر لن يكون إلا بتزوير للإرادة الشعبية، ذلك أن الناس اختارت فتاها غسان قبل أن تتكلم نتائج الانتخابات، ولا طريق لحبيب أبو شهلا الرئيس والوزير والزعيم العتيق، إلا الانسحاب أمام إرادة الناس، ومشاركة الشاب المنتصر غسان عرس نصره.

في زمن كميل وكمال، كميل شمعون وكمال جنبلاط، الاسمين الأكثر إشعاعاً وجاذبية في زمانهما، كان اسم غسان الشاب هو الثالث الموازي في قيادة الحركة السياسية الشعبية الألمع في تاريخ لبنان السياسي، الهادفة إلى منع أول رئيس جمهورية لبناني في عهد الاستقلال، بشارة الخوري، من التجديد لنفسه خلافاً لأصول الديموقراطية البرلمانية اللبنانية.

يمتاز غسان التويني في جملة ما يمتاز به بالصحوة الدائمة على الأساسيات وعلى مطالب الناس وعلى مسيرة التاريخ، إنه يعرف جيداً طريقه وطريق شعب لبنان، وقد طالب نفسه قبل أن يطالب ابنه المكرس الشهيد جبران، بالوفاء الدائم لمسيرة التاريخ قبل أي اعتبار آخر؛ فعندما أقيم القداس في كنيسة مار نقولا للروم الأورثوذكس في وسط العاصمة للصلاة عن روح جبران الابن، أبرز شهداء انتفاضة الاستقلال المعروفة وأصرحها خطاً، كان قد تجمع الصحفيون والناس على عتبة الكنيسة حول غسان، العائد لتوه من السفر، يريدون أن يسمعوه، فإذا هو يطل جباراً على آلامه ونفسه، مسكوناً بالتاريخ، يعلن بكبر وجلال استمرار مسيرة النهار، بعد استشهاد ولده، في خطها التاريخي نفسه، قائلاً وكأنه يوجه لبنان كله إن والده جبران الأول عندما أسس الجريدة أعلن أنه أسسها لتسير تحت قنطرة النهضة العربية، وعلى هذا الأساس تستمر، ومن أجل ذلك، استشهد جبران الابن، وعلى هذا الأساس تستمر النهار وفية للعهد اللبناني العربي الذي أخذه جبران الجد على نفسه ومن أجله قضى جبران الحفيد.

كانت معرفتي الأولى بغسان، وهذه للذكريات الشخصية عندي، في حفلة أدبية (أو مسابقة) أقيمت في القسم الفرنسي من الثانوية العامة للجامعة الأمريكية في بيروت، حيث كان يدرس متقدماً علي بسنتين. نجح يومها في المسابقة في مباراة شعرية ألقى فيها قصيدة للشاعر الفرنسي، مطلق الحداثة، ساحر زمانه والأجيال، بودلير. في تلك الحفلة تعرفت بغسان التويني المثقف الراقي المرهف للمرة الأولى، وهو يلقي الشعر في المعهد. انبرى أمامي كمثقف، رفيع المستوى، ذواقة للرفيع من الإنتاج الأدبي العالمي، حر، صادق من الدرجة الأولى، وليس من سبيل للعرب واللبنانيين معهم إلى النهوض إلا بالتمسك بالأصالة النهضوية والفكرية وبالحداثة التي ينبغي أن يعرفها جيداً الإنسان الحديث حيثما كان، وكل أمة قادرة على أن تعيش ذاتها بعمق، بقدر انفتاحها على عصرها وعلى الحق والجمال في ذاتها أولاً وفي عطاءات الأمم والإنسان حيثما كان.

كان أغلب أساتذة القسم الفرنسي آنذاك، في تلك المدرسة التي ضمتني وغسان، من الإنجيليين السويسريين والفرنسيين المعروفين بالإتقان في مهنهم، وكان رفيقي في الصف، الشاعر اللبناني البارز المرحوم خليل حاوي يحدثني دائماً عن غسان كأحد الشبان الأكثر أصالة في ذوقهم الأدبي وفي مستواهم الفكري. ومنذ ذلك الزمن البعيد وأنا من موقع المودة الموروثة بين الصلحيين والتوينيين، ومن موقع الهوى الواحد أتابع غسان، مفخرة لبنانية وعربية في العطاء والتجدد والأصالة.

يكبر الإنجاز أحياناً حتى ليغطي صاحبه، فلا يعود في وسعك إلا أن تتحدث عن الإنجاز أولاً وكأنه الألف والياء؛ فصاحب النهار، إحدى كبرى الجرائد العربية وأشدها إشراقاً، ماذا يمكن أن يقال عنه في لغة الناس سوى أنه صاحب النهار، وكأن المؤسسة التي أنشأها أبوه من قبله وورثها ابنه من بعده، لم تبق له شيئاً يقال فيه، بل كأنها تنزع إلى أن تلخصه كله بها على حساب كل ميزة فيه وكل نبوغ وكل ما أعطى ويعطي، وكأن من صلب الصنيع الكبير أن يكبر على صاحبه. وهذا حال غسان التويني، صاحب جريدة النهار، اللبناني، النائب، والوزير، والمثقف، والمفخرة اللبنانية.

* مفكر لبناني


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة