Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

الصحافي الباحث
السيد ولد اباه*

 

 

من بين رموز الصحافة العربية المعاصرة، يمكن النظر إلى غسان تويني باعتباره الوجه الأوحد الذي جمع إلى جانب مهنته الصحافية بين شخصية السياسي اللامع والمثقف المتعمق الذي تتجاوز ثقافته وقراءاته قشور الفكر الرائج وعناوين واجهات المكتبات.

وفي الوقت الذي سيطر على الإعلام العربي نموذجان هما (كلب الحراسة) إشارة إلى كتاب بول نيزان الذي حمل هذا الاسم ونعني به نديم الحاكم ومادحه، و(مدير الوعي) أي الداعية الايديولوجية الذي يطمح إلى صياغة وعي الناس وتوعيتهم وتوجيههم إلى مصلحتهم العاجزين عن إدراكها، أسس تويني نمطا جديدا من الصحافة، وكون جيلا غير مسبوق من الصحافيين. يرتكز النموذج الذي بلوره التويني على خصائص ثلاثة هي:

- موضوعية الخبر، بحيث لا يجوز أن تكون المهمة الإخبارية للصحافي وسيلة نضالية تستخدم في الصراعات السياسية والإيديولوجية. فعلى كثرة الصراعات التي خاضها تويني الذي كان دوما فاعلا سياسيا نشطا في بلاده، لم يوظف صحيفته العملاقة (النهار) سلاحا في معاركه، بل احتفظ لها بصدقيتها المهنية التي أهلتها للمكانة المرموقة التي حافظت عليها في أحلك أيام الفتنة الأهلية المريعة التي عرفها لبنان.

- العمق التأويلي في التحليل، بالاستنكاف عن المواقف الانطباعية السريعة والجاهزة، والرجوع إلى الخلفيات المرجعية الأساسية، مما سمح بتكوين (الصحافي الباحث) او الموثق الذي هو نموذج نادر في صحافتنا العربية. ولقد فتح تويني لهذا الغرض صفحات النهار لأبرز الكتاب والمفكرين اللبنانيين والعرب، ما أضفى على ملاحقها وأبوابها مسحة ثقافية جذابة لم تكن مألوفة في الإعلام العربي.

- الانفتاح في مستوييه الداخلي المتعلق بأنماط الرأي والفكر الموجودة في الساحة اللبنانية والعربية التي لم يضق بأي منها والخارجي المتصل بالثقافة الكونية واتجاهات الرأي والفكر في العالم. وهكذا ظلت صحيفة النهار نافذة الكثيرين من القراء العرب على الفكر الإنساني وتيارات الحداثة في الغرب.

لم تكن لتتحقق هذه المزايا دون الخصال الفكرية والإنسانية للرجل الذي تشبع بالقيم الديمقراطية والتنويرية، ورأى فيها المخرج من تجاوز نزعات الانغلاق الطائفي والديني المهددة للنسيج الوطني، كما تشبع بالمثل العروبية في أبعادها الإنسانية المنفتحة، واعتبر أن شرط تحقيقها وتجسيدها هو مصالحتها مع الرؤية الديمقراطية الاختلافية. دفع الرجل غاليا في حياته المديدة ثمن تميزه الفكري والسياسي الذي لا يرضي المتعصبين من بني ملته ولا المتطرفين من بني وطنه، ولا الحكام من محيطه الذين ألفوا من الصحافي جشع التزلف أو صمت الخوف.

في حياة الرجل ماسي عائلية يتقطع لها القلب لم تزده إلا كرما وحكمة، أضفت عليه في سنوات الشيخوخة مسحة كرزمائية دينية تذكر بالرهبان الذين مدحهم القرآن الكريم بعدم الاستكبار والليونة للحق.

*مفكر و أديب موريتاني


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة