Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

عصر غسان تويني
ادمون صعب*

 

 

عندما توفي جبران تويني في 11 تشرين الثاني 1947 في التشيلي حيث كان وزيراً مفوضاً لديها كان غسان تويني لا يزال طالباً في جامعة هارفارد يُحضّر الدكتوراه في العلوم السياسية ويحلم بأن يصبح استاذاً جامعياً، ويؤسس مجلة أدبية تتجاوب مع مواهبه الأدبية، الشعرية والمسرحية. فعاد إلى لبنان ليواجه مسؤولية تأمين استمرار (النهار) وبقائها. فالتزم المبادئ التي قامت عليها الجريدة وأعلنها جبران تويني في العدد الأول الذي صدر من الجريدة صباح 4 آب 1933، وفيها، (أودُّ أن أنشئ جريدة لبنانية عربية، تدافع عن لبنان واستقلاله وكيانه، لا طائفية، مع الرابطة الوطنية لا المذهبية، غير متعصّبة، منفتحة على القضايا العالمية، من غير أن يؤثّر ذلك على شخصيتها الوطنية والتراث العربي. ديموقراطية، تحارب الاستبداد، وتزاول الحرية ضمن حدود السلطة الوطنية، أي احترام القانون للمحافظة على كيان يريد البقاء حرّاً، وتحترم كل الآراء ما دامت لا تعارض النظام العام. غير حزبية، لا تتحمس للتنظيمات الطائفية، وتُقاس مواقفها من الحكّام على أساس إخلاصهم للبنان واستقلاله وعروبته).

وفي ردّ على سؤال طرحه صاحب (النهار) على نفسه خلال محاضرة ألقاها في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1938، ويعود إليها غسان تويني دائماً، وكان موضوعها (الصحافة حرفتي، فكيف أخدم بها وطني) قال: (إن على الصحافي أن يُدافع عن استقلال وطنه، وعن الحياة الدستورية فيه لأن الحكم الدستوري هو الوسيلة الوحيدة للدفاع عن الحريات. إلى التزام سياسي آخر بأن يحافظ على استقلاله الشخصي وكرامته الذاتية. استقلاله ربما حتى عن صاحب الصحيفة التي يعمل فيها، واهتمامه بأخلاقه الشخصية. فإذا لم يتمتع بالأخلاق الحميدة لا يستطيع أن يخدم قضايا مهمة).

وهكذا انطلق غسان تويني متابعاً رسالة والده ساعياً إلى تأمين استقلال (النهار) على النحو الذي شهده في (النيويورك تايمس) حيث استقلالية الصحيفة، حتى عن أصحابها، هي ضمان حريتها، وأن الصحف الشبعانة وحدها تستطيع أن تكون حرّة تنفق هي على أصحابها ولا ينفق أصحابها عليها.

وعاملاً كذلك على توسيع قاعدة قرّائها على أساس أن صحيفة القلّة أو النخبة تبقى أسيرة لهذه القلّة، في حين أن صحيفة الكثرة أكثر حرّية، لأنها أكثر مسؤولية.

.. وانطلق القائد الشاب مضيفاً إلى وظيفة الصحيفة، الإلهام. وانخرط في الحياة السياسية وصار نائباً في البرلمان، وشارك في إسقاط الرئيس الشيخ بشارة الخوري من خلال (الجبهة الاشتراكية الوطنية) إلى جانب الزعيم كمال جنبلاط وكميل شمعون.

وعمل على تطوير (النهار) في ضوء ما اقترحه على والده من أميركا، فحوّل الجريدة من ظهرية إلى صباحية، وجعل الديك شعاراً لها، كما رفع عدد الصفحات من أربع إلى ثماني تحت شعار (جريدتان في جريدة واحدة)، وأدخل الإنترتيب في التنضيد والروتاتيف في الطباعة، مما دفع (النهار) إلى مقدّم الصحف اللبنانية، تمهيداً لجعلها الصحيفة الأولى توزيعاً وإعلانات، تربح وتعيّش أصحابها الطفرانين!

وما كان ليتحقق ذلك ل(النهار) لولا دخولها عالم التصنيع، منتقلة من الإنترتيب إلى التنضيد التصويري الذي مهَّد للثورة التكنولوجية الكبرى في عالم الاتصالات حيث سادت التكنولوجيا الرقمية وأساليب معالجة المعلومات.

وشرح غسان تويني عام 1963 مفهومه للتصنيع بالآتي: إن هذه الخطوة تعني بالأرقام أن تستخدم الجريدة مطابع قيمتها مليون ليرة، مثلاً، من غير أن تضطر لامتلاكها.

وأن تكون الإدارة إدارات وأقساماً وفروعاً تدرس وتحصي وتروّج وتخطط، وتنظّم، وكأنها، بتجهيزها، آلة كبيرة، بدل المحاسب العتيق الذي كان جالساً خلف نظارتيه يحسب بالقلم الرصاص غلّة فتات التحرير.

والتصنيع كذلك، وبنوع أخصّ، أن يرتفع عدد المحررين الأربعة إلى أربعين ويزيد... يصنعون للقارئ جريدة حيّة، متحركة وكاملة.

ويعني التصنيع أيضاً أنباء صادقة، سريعة ومؤكدة. تحييها الصورة، أفقها أشمل من المحليات والبرقيات العادية التي كانت تضيّق على لبنان عالمه، فتنبئه بأفضل ما يحدث وأسوأ ما يحدث. وتكشف له، في آن واحد، الخطير والرفيع والطريف.

ويعني التصنيع أيضاً مقالات تُجاوب أسمى ما في نفس القارئ، تترفّع عن الحزبيات والمهاترات، وتبلور للقارئ رأيه، ولا تفرض عليه رأيها. تحلل له الوقائع، وتعرّفه إلى الحقائق البواطن، وتدلّه على المواقف الحق. تدافع مع القارئ وتجاهه عن حقوقه كمواطن، ومصالحه وحرياته واستقلال بلاده.

ويعني التصنيع تالياً إخراجاً يصوغ مواد الجريدة دون غرض أو هوى، ويُعَنوِنها دون تضخيم أو تهويل. يساير الفنّ المتقدم كل يوم، ولكن دون خروج على (التقليد)، فتتقدّم الجريدة من القارئ ملأى، جميلة، سهلة، جديدة كل نهار، ولكنها في شخصيتها ذاتها.

ولأن القارئ يتبنى الجريدة كما هي، ولا يريدها أت تتغيّر، فهو بالنسبة إليها كائن حيّ، وإن في زيّ عملاق عجيب له عقل خاص، وقلب خاص وأطوار خاصة. وله عادات يتمسك بها حتى تكاد تتحجّر.

وأصعب ما في مصاحبة هذا الإنسان الغريب، بل معاشرته والتعامل معه، أنه كان ككل كائن مركّب، ذي آراء متضاربة، وإحساسات متنافرة، وأذواق متفاوتة.

فأي شيء غير التصنيع يطلق الصحافة من عقال أصحابها، فتتمكن هي من الانفاق عليهم بدل أن تظلّ مسترهنة لانفاقهم هم عليها. ذلك أن الصحافة التي ينفق عليها أصحابها لا تكون حرّة إلا بنسبة ما يكونون هم أحراراً.

أما الصحافة التي تنفق هي على أصحابها فتكون ربيبة الحرية، متينة، مكينة، لأنها تتخلّص من الروابط المادية التي يمكن أن تعوق حريّة الرأي: ويكسبها الرواج مناعة لأنها تتحصّن بسعة الانتشار: كثرة القرّاء يؤلفون جسمها الحقيقي، والإعلان يتهافت عليها لحاجته اليها، فيطلبها بمقدار ما تطلبه هي وأكثر، تفيده فلا يتحكّم بها، لأن مصلحته ومصلحة صاحبه هما في رواج الصحيفة التي تحمله.

ذلك أن الحرية الصحافية ليست غير بقية حريات الإنسان. وأي إنسان مهما يكن تَوقه إلى الحرية ملحّاً، وإيمانه بها قوياً، يقدر أن يمارس حريّته، ويتصرّف بإرادته، إذا كانت إرادته مكبّلة بالمادة، محتاجة، جائعة؟

وبفضل التصنيع ضربت (النهار) أرقاماً قياسية في الطباعة والتوزيع: 68.826 ألف نسخة في 8 نيسان 1968، فبلغت مستوى من الانتشار يجعلها بالفعل ما أراد مؤسسها أن تصبح، عندما تمنّى، في إعلان الصدور أن تكون (النهار) عند ثقة قرّائها - إنهم عندئذ يزيدونها إقبالاً فتزيدهم هي تحسيناً. وما لبثت (النهار) أن تحوّلت واحداً من مراكز القرار في البلاد.

ومع تعاظم دور الصحافة خشي غسان تويني (أن تصبح مُمَكنَنَة إلى درجة يختفي فيها الإنسان نهائياً)، وهو القائل (إن الصحافي وحش. وهذه حقيقة. الصحافي الحقيقي، وصار عندنا نادراً، رأسه يكون مثل الكرة الأرضية، ويستوعب كل 24 ساعة كل ما يحصل في العالم. ويقدر أن يعي كل ذلك ويعود ويفلشه على عدد من الصفحات. أليس هذا وحشاً؟).

وعندما دخل الحكومة عام 1970 أصدر (مفكرة عمل) وجهها إلى هيئة التحرير في 24 تشرين الأول 1970. ومما جاء فيها: المرحلة التي تُقبِل عليها (النهار) بمناسبة وجودي في الوزارة، تستوجب توضيحاً لسياسة الجريدة يسجّل المبادئ العامة التي كنا نعمل بموجبها كأنها دستور حيّ، غير مكتوب، نجتمع على الإيمان به وبمعرفته، نقيس به الأحداث والمواقف، نقوّم الآراء، نقرر التوجيه، من غير ما حاجة في غالب الأحيان، إلى أكثر من مشاورة عابرة.

هذا الشعار لخّصته (النهار) في أكثر من مناسبة بشعار (الرأي الحرّ والنبأ الأكيد). وانطلاقاً من هذا الشعار كانت (النهار) تأخذ هويتها وطابعها تدريجاً، مع نموّها، حتى أصبحت لها الشخصية التي يهمّنا جميعاً، في هذا الظرف أكثر من سواه، الحفاظ عليها وتعزيزها".

ووصف هذه الشخصية بالآتي:

أولاً: إنها ضمير الرأي العام. وهي مسؤولة دائماً تجاهه وعنه.

ثانياً: إن صاحبها الحقيقي هو القارئ، فهي إذاً في تعاقد معه دون سواه.

ثالثاً: تعكس تيارات الرأي في البلد، وتقيم بينها وبين تيارات الرأي هذه تفاعلاً توجيهياً أيجابياً.

رابعاً: تغطي الخبر من جميع نواحيه، وتفسح لجميع وجهات النظر في مجال التعبير عن نفسها، على أن يبقى ل(النهار) رأيها الخاص المكوّن على أساس الوقائع والمبادئ في آن واحد.

خامساً: إن رأي (النهار) المعبّر عنه في مواقفها العامة، لا يعني أن تكون جميع الآراء المنشورة فيها، وبالتحديد جميع المقالات الموقعة من كتّابها أو من كتّاب ضيوف، نسخاً طبق الأصل عن رأي واحد.

ويسأل مطمَئناً إلى المستقبل: بوجود رئيس تحرير (النهار) في الوزارة، ماذا يترتب من تغيير على ميثاق (النهار) مع قرّائها ودستور تصرّف محرريها وحياتهم؟.

ويجيب: لا شيء... أو هكذا يجب. فصيت (النهار) انها جريدة قادرة على الصدور وحدها، حتى وإن غاب جميع المحررين!.

وكانت هذه بمثابة وصيّة التزمتها (النهار) كما التزمها غسان تويني، بعد عودته إليها من الوزارة ولا يزال.

*رئيس التحرير التنفيذي لجريدة (النهار)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة