Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

كأس الحرية
محمد علي الأتاسي*

 

 

قلة من الرموز في لبنان تتجاوز في معنى وجودها انقسامات هذا البلد الصغير وطوائفه المتصارعة وحروبه الأهلية المضمرة منها والمعلنة. من دون طول تفكير يمكن القول إن غسان تويني هو إلى جانب فيروز واحد من هذه الرموز القليلة المتبقية من لبنان الآخر، وواحد من الرموز المتجددة التي لا تزال محملة بالوعود للبنان المستقبل.

غسان تويني هو للصحافة والفكر كما هي فيروز للفن والغناء وكما هو جبران خليل جبران للشعر والآداب. إنهم رسالة لبنان المغاير للعالم. لا شيء آخر يشبه قلم غسان تويني غير صوت فيروز من حيث القدرة على تجسيد هذا البعد الرمزي الذي يلتف من حوله اللبنانيون في أيام الفرح والغبطة على قلتها، كما في سني الشدة والضياع على كثرتها. لا عجب بعدها أن يكون قلم غسان تويني واحداً من آخر المنارات التي يلتفت إليها المواطن العادي كما السياسي المحنك عندما ينشدان الابتعاد عن مزابل السياسة اليومية وانقساماتها وتسوياتها المبتذلة نحو ما يؤسس ويجمّع ويوجه إلى آفاق أرحب...

يصح القول في غسان تويني في علاقته بأهله وزملائه ومجتمعه وبلده ومشرقه العربي، ما قاله يوما كبير آخر من طينة غسان تويني ومن صداقات عمره هو البطريرك هزيم (نحن لسنا طائفة يقف همها عند حدودها. نحن ومضة ونبض ونسغ حتى يتألف الجميع ويطمئن الجميع... نحن في الحضارة المشرقية العربية لون أو نكهة. ولكوننا اكتنهنا هذه الديار لا شيء يغربنا عنها).

نكهة هذه الديار التي تعبق من غسان تويني تلتقي فيها إلى جانب لبنانيته، ليبراليته الواسعة الأفق المتداخلة عميقاً مع الفكرة العربية في معناها الأنبل حيث لا تسلط ولا إكراه ولا إلغاء للآخر، ويلتقي فيها هذا الحنين المشرقي العميق إلى القدس الضائعة.

تمثال رأسي، وحيد وصغير، يقبع كالومضة والنبض والنسغ على رفوف مكتب الأستاذ غسان تويني، إنه تمثال الأمير فيصل بن الحسين. أما دمشق الشام والكبير المنزوي في الكاتدرائية المريمية وشاغورة صيدنايا والأصدقاء القدامى من السوريين البيض والأصدقاء الجدد من المثقفين السوريين، فلسان حالهم تختصره تلك العبارة التي اختتم بها أصدقاء سمير قصير من المثقفين السوريين برقية التعزية باستشهاد جبران: (تأخرنا، نعترف. ولكن سيأتي بعدنا آخرون، دائماً سيأتي آخرون، ليس لنهرك، نهر الحرية أن يجفّ..)

في مسيرة كل إنسان هناك لقاءات تنطبع بها حياته، ولا شك أن تعرفي على الأستاذ غسان تويني وجلسات الحوار الثنائية التي جمعتني به على مدار السنين السبع الماضية في مكتبه في جريدة (النهار)، هي من تلك اللقاءات التي تعلمت منها الكثير وتركت أثراً بليغاً في حياتي وترتب عليها صداقة ومودة واحترام لا أزال أحملهم إلى اليوم لهذا المعلم الكبير في تواضعه كما في غزارة علمه وسعة أدبه.

تدخل إليه، وهو الأستاذ الذي له من السنين ضعف عمرك، فإذا به بدلاً من أن يبادرك السؤال هل قرأت مقالي أو هل أعجبك مقالي هذا الأسبوع؟ تراه يسألك ما انتقاداتك وملاحظاتك على مقالي هذا الأسبوع؟ فتتعلم من تواضعه بقدر ما تعلمت من مقاله الأسبوعي موضوع السؤال.

غسان تويني هو بالهواية سياسي وبالصدفة نائب ودبلوماسي ووزير. وهو بحكم الضرورة صاحب مؤسسة ورئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير. وهو بالسليقة كاتب وصحافي ومراسل. هو كل هذا وغيره كثير، لكنه في الجوهر المفكر والمثقف والفيلسوف الذي لم يتح له موت والده المبكر إكمال أطروحة دكتوراه الفلسفة في جامعة هارفرد.

يحضرني هنا موقف يبين معنى علو كعب القلم والثقافة على جاه السياسة وألاعيبها، فغسان تويني الذي شارك في طاولة الحوار التي انعقدت غداة انسحاب الجيش السوري من لبنان وضمت إضافة إليه أبرز الزعماء السياسيين في لبنان، لم تفعل له شيئاً آخر سوى أن زادته مسافة نقدية من الجميع. أذكر التعليقات الثاقبة والتحليلات النقدية والملاحظات الساخرة التي سمعتها منه بخصوص ما رأى وسمع وعاين هناك. يكفي هنا أن أذكر واحدة منها جواباً عن سؤالي له عن آفاق الوصول إلى حل والمدة التي سيستغرقها ذلك، فإذا بالأستاذ غسان يجيب: (أهم شيء هو أن يستمر ويطول جلوسهم والتقاؤهم من حول هذه الدائرة المستديرة، وإلا فإنهم سيخرجون ليتقاتلوا من على الشاشات وفي الشارع). وهذا ما كان!!

في كتاب (سر المهنة وأسرار أخرى) يقول غسان تويني الآتي: (كنت ولا أزال على اقتناع كليّ بأنه إذا كان كل جيل يأتي على شاكلة الذي قبله، فلا أمل بالتطور والتقدم). غسان تويني الذي تمرد سياسياً على والده وقبلّ بالتمرد السياسي لجبران تويني الابن عليه، انتهى به الأمر إلى وراثة الجبرانيين معاً باستمراريتهما وتمردهما.

لاحظت ذات مرة في حديثه إلي اقتناعه بأنني أتقاسم مع والدي ذات الأفكار السياسية بالتمام والكمال، فبادرته بقول شهير للفيلسوف الفرنسي غي ديبور: (الرجال تشبه زمانها أكثر مما تشبه آباءها)

(Les hommes ressemblent plus à leurs temps qu'à leur père)

فما كان منه إلا أن سجله بالفرنسية على بطاقة لكي يطلع عليه وريثته في صحيفة (النهار) نايلة تويني.

في غسان تويني غسانان؛ واحد عميق وغامق وحزين، مسكون بموت الأحبة من جبران تويني الأب إلى الزوجة ناديا تويني إلى الابن المدلل مكرم إلى الابن المتبنى سمير قصير إلى الابن الوريث جبران تويني. وهناك غسان ثان مسكون بالحياة وبطاقة لا تنضب من العمل والتفاؤل والأمل في مواجهة الموت والحزن. غسان تويني الثاني هذا هو الذي أملى غداة موت جبران مانشيت الجريدة لتصدر في اليوم التالي متوجة بالعنوان: (جبران لم يمت، النهار مستمرة).

في الآونة الأخيرة فضلت الابتعاد قليلاً عن الأستاذ غسان لكثرة مشاغله السياسية وغير السياسية. لقد مضى عام على آخر لقاء جمعني بالأستاذ غسان تويني. في ذلك المساء في مكتبه في جريدة (النهار)، تبادلنا طويلاً أطراف الحديث وفجأة التمعت عيناه وقال لي إن هذا اللقاء يذكره بالجلسات التي كانت تجمعه مساء من حول فنجانين من القهوة مع صديقنا المشترك سمير قصير، وأردف قائلاً ببراءة: هل تريد فنجانا من القهوة معي؟

لم أشرب يومها القهوة، أما كأس الحرية فما زلت أتقاسمها مع الأستاذ غسان، صباح كل اثنين على الصفحة الأولى من جريدة (النهار).

* إعلامي سوري


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة