Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

الإنسان..الظاهرة
إلهام سعيد فريحة*

 

 

تجتاحني سعادة غامرة وكبيرة استحققتها مرتين. مرة في أن تتاح لي فرصة الكتابة عن أحد عمالقة الصحافة والقلم والكلمة في هذا الشرق، وآخر الكبار في هذا المضمار في لبنان، عنيت به أستاذ أجيال من الصحافيين والإعلاميين أستاذنا الكبير غسان تويني. واستحققتها مرة ثانية بأن أكون في عداد هذه النخبة العظيمة والمميزة من المثقفين ورجال الإعلام والفكر والسياسة والعلم والمعرفة والخبرة التي كانت على تواصل من قريب أو بعيد مع الرجل-الظاهرة- الذي تخصص بالإبهار في كل شأن تعاطاه، إما بحضوره الشخصي، وإما بالواسطة، كل يوم عندما يصيح الديك ويطلع (النهار).

***

عندما تلقيت من الأستاذ الكبير (سر المهنة.. وأصولها، (النهار)-كتاب التسعينيات) وقد اعتلى أيمن الغلاف اسم غسان تويني، قرأت إهداءه لي الذي حرص على كتابته بخط يده بعقل ثابت وراسخ كجبال الصوان، ولكن بأنامل مرتعشة تغالب السنين وتدعونا إلى الدعاء له بدوام الصحة وطول العمر. وقد تمعنت بكلمات هذا الإهداء: (إلى الزميلة العزيزة سعيد (وحسيبة) فريحة، هذا الكتاب يعتبر أصول المهنة للصحافيين والكتّاب الذين سبقونا إليها وفيها.. ومنهم بالطبع مؤسس (الصياد).. فمن أحرى من وريثته بأن يُهدى إليها بحكم الزمالة و(المحبة).. والإعجاب بأن تركب امرأة المركب الخشن! وتجيد. مع أطيب تمنياتي)، غسان 21/3/2007.

تراءى لي، وقد أكرمني بالهدية والإهداء، والزمالة والمحبة والإعجاب، وشهادة الإجادة في ركوب المركب الخشن الذي سبقني مع كثيرين منا إليه، إن ما جمع بيننا وبين عائلتينا قديم قدم اليوم الذي كنت فيه نطفة في رحم الحياة.. يوم كان والدانا كل من عالمه الخاص تقوده خطاه وينجذب نحو هذا الكوكب الممغنط الذي نسميه عالم الصحافة: جبران تويني الوالد المؤسس يهبط عليه من فضاء الأبهة ومجتمع الثقافة والرفاهية والراحة. وسعيد فريحة يرتقي إليه من عالم الكادحين والمكافحين والطامحين إلى تثقيف أنفسهم على ضوء فانوس الشارع توفيراً لنفقات فانوس البيت!.

تراءى لي أن ما جمع بيننا يعود إلى ذالك اليوم الذي رسم فيه والدنا أقدارهما بنفسيهما على الخط نفسه بفارق نحو عشر سنوات، فأسس جبران تويني (كونه) وأشرقت شمس (نهاره) عشية حدث عظيم هو الحرب العالمية الثانية، وأسس سعيد فريحة (كونه) عشية حدث عظيم آخر هو استقلال لبنان بإصدار (الصياد).

***

معظم من انبرى للكتابة عن غسان تويني اعتراه نوع من التهيب والحيرة وسؤال صعب: من أين نبدأ مع هذا الإنسان-الظاهرة؟ الصحافي؟ أو الكاتب؟ أو المفكر السياسي؟ أو المنظر العقائدي؟ أو الأستاذ الجامعي؟ أو السفير أو النائب؟ أو الوزير؟ أو السياسي؟ أو الفيلسوف؟ أو... رجل الأعمال؟ أو بكل بساطة: الإنسان؟.

كان غسان تويني كل ذلك، وكان في كل منها فذاً، واستثنائياً ورائداً ومتفرداً في حضوره ونجاحه. غالبية ممن نظروا إليه قد تكون بهرتهم أولاً واجهته الإعلامية الشاسعة ومن أعلى القمم فيها. غير أنني وإن كنت من بينهم، إلا أنني رأيت فيه وأرى ما هو أعظم: الإنسان المذهل في جلده وصبره وصلابته وقدرته الفذة على تحمل أعباء أحزان تنوء بها الجبال من فقدان الابنة فالزوجة فالابن الثاني فالابن الأول زين الشباب ورفيق الدرب والزمالة والمحبة فالشجاعة والتضحية الشهيد جبران تويني (الحفيد).

***

ما أكثر المغرومين الذين شغفوا بحرف الدال تتبعه نقطة تسبق اسمهم. كانت كلمة (الدكتور) لقب شرف وجواز مرور إلى الرفعة والشهرة والعز والنفوذ والثراء. قلة من الجمهور الواسع والعريض التي تابعت غسان تويني على مدى عقود تعرف أنه (دكتور) متخرج من إحدى الجامعات في العالم: هارفرد. هل هو تواضع؟ قد يكون! وقد يكون ما هو أبعد وأعمق. قد يكون هو صفة وميزة المفكر ورجل العلم والمعرفة والتجربة والمراس الذي كلما ازداد توغلاً في أرضها ومعرفة بآفاقها اللانهائية، ازداد شعوراً بضآلة الألقاب والمناصب.

***

في كتاب نشر في ذكرى سعيد فريحة عام 1979 كتب غسان تويني محللاً أسلوبه بعنوان (سعيد فريحة صحافة الشخصانية)، ومما قاله: (ذلك أنه يتراءى لقارئ سعيد فريحة، بعد مرور الزمن، أنه كان على شيء من ضيق الصدر في التعمق في البحث إذا تحدث عن قضية. ثم أنه كان كذلك، على (خفة دمه) في الرواية، بما فيها رواية الخبر، وعلى توسُّعه في الوصف والتفصيل كان إلى ذلك، قليل الجلد في (التوثيق) ينصرف عن الشمول بمعناه العلمي الحديث ليستعيض عنه بالتركيز على ملامح رئيسية تتكون منها الصورة التي يريد أن ينقل. وكان سعيد فريحة، أخيراً وليس آخراً، يحب أو يكره، يعجب أو يحتقر، يقبل أو يصدف... أفنستغرب، بعد ذلك، أنه لم يزين مقالته مرة بالصورة بل بالكاريكاتير، وأنه لم يستعمل وثيقة إلا لبرهان حجة، ولا نشر أرقاماً في سبيل إحصاء، بل في معرض اتهام أو دفاع).

هذا ما قاله عن صحافة سعيد فريحة، ولكن أية صحافة هي صحافة غسان تويني؟ ربما عودة إلى الينابيع تفيد في إلقاء الضوء...

تلقى الأب المؤسس جبران تويني ذات يوم دعوة من جمعية (العروة الوثقى) لإلقاء محاضرة في الجامعة الأمريكية (8-12-1938). واختارت له الجمعية بنفسها عنوان المحاضرة: (مهنتي ما هي؟ كيف أخدم بها قومي؟) توقف المحاضر عند كلمة ما كان ليتوقف عندها أحد غيره. الجمعية تقول عن الصحافة أنها (مهنتي) فهل الصحافة مهنة؟. أمضى وقتاً ينقب في القواميس وأمهات اللغة في معنى كلمة (المهنة) وهل تنطبق على الصحافة. وانتهى إلى القول إن الصحافة ليست مهنة بل (حرفة) بعد أن غاص أيضاً في المراجع نفسها في تعريف هذه الكلمة الأخيرة.

غسان تويني هو وريث هذا النوع من الصحافة، الباحث، المنقب، المفكر، المحلل، الدارس، المقارن. وأضاف إليها الكثير مما أصبح من موروثاته هو: العمق التاريخي، البعد الثقافي، الرؤية الفلسفية. ومن الصعب أن تجمع كل هذه الصفات بوصف من كلمة واحدة. إن ما هي عليه صحافة غسان تويني، وما كانت عليه صحافة سعيد فريحة، معناهما أن الصحافة واحدة ولكن بمدارس متعددة تبدعها قرائح العبقرية والتفرد، ولكنه تكمل بعضها بعضاً... وما من صحافة واحدة كاملة، والكمال لله وحده.

***

يقول غسان تويني عن نفسه إنه (ترك الصحافة ولم تتركه). غريب هو قدر غسان تويني. تولى رئاسة التحرير عام 1948. وفي عام 1977 أي بعد أكثر من ربع قرن، كتب (المقال الأخير)، معتزماً ترك الصحافة وما كان قادراً على اعتزال الصحافة. لا يكف النهر عن التدفق حتى ينضب. ولا يتوقف عمالقة الصحافة عن التدفق حتى ينضب نهر الحياة بعد عمر طويل بإذن الله.

***

يقول غسان تويني: (الصحافة وحدها تنصف الحياة لأنها تبقيها)... ترى هل أنصفت الحياة غسان تويني؟.

* المدير العام لدار الصياد


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة