Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

كلمته أقوى من فعلهم
غازي العريضي*

 

 

أن يطلب إليك الكتابة في غسان تويني فهذا يعني وضعك أمام أصعب التحديات والامتحانات. إذ للقيام بهذه المهمة يجب أن تكون ملمّاً بموسوعات كثيرة نهل منها الرجل وأضاف إليها في الصحافة والسياسة والثقافة والتاريخ والفكر والدبلوماسية وعلوم الحياة وأعني هنا علوم الصبر والعناد والحكمة وقوة الكلمة. ولو طلب إليك الكتابة عن غسان تويني في إحدى شخصياته أو أحد جوانب حياته وتجربته المذكورة فهذا يعني أنك أمام امتحان محدّد لكنه أيضاً صعب.

هذا هو الرجل، الذي تعرفت إليه يوم كنت في مقتبل العمر في بدايات حياتي الجامعية أعلّم لأتعلم وأحلم بوطن تسود فيه ديموقراطية التعليم والمعرفة وحرية التعبير عن الرأي وتتكرس فيه العدالة الاجتماعية ويكون لنا ممثلون في مؤسساتنا الدستورية التشريعية والتنفيذية يخططون لهذا الحلم ويعملون على تنفيذه. يومها، كنت أقرأ غسان تويني الثائر على الظلم وعلى التضييق على الحريات بعد أن كان وزيراً للتربية منتفضاً أيضاً في وجه السلطان والطائفية. تابعته صحافياً بارزاً، وزيراً لامعاً قديراً، ثم مرشحاً للانتخابات في منطقتي الانتخابية. وقبل أن أعرفه مباشرة اندفعت لمناصرته رغم انتمائي التقليدي إلى عائلة كان من المفترض أن تقف سياسياً ضده التزاماً باللائحة التي كان ضدها. لكنني اخترته، وأعجبت ببرنامجه بالإضافة إلى كتابته كما لفتتني إدارته لمعركته الانتخابية وقد أدخل عليها نمطاً جديداً يتماشى مع الحملات الانتخابية في الديموقراطيات الأخرى في العالم.

كبرت وكبرت أحلامنا وكبر غسان تويني والتقينا في مواقع مختلفة لاحقاً. وكان قد خاض تجربة دبلوماسية هامة يوم مثّل لبنان خير تمثيل في الأمم المتحدة، واجتاحت إسرائيل لبنان عام 78 وصدر القرار 425 الذي بقي سلاحاً في يدنا حتى تحرير أرضنا وكان غسان تويني ماكينة سياسية ودبلوماسية وإعلامية متحركة في كل اتجاه لنصرة بلده، وتميز بالحكمة والقوة، قوة الكلمة والرأي والمنطق والحجة بطبيعة الحال، فكان لبنان بلداً محتلاً من قبل إسرائيل، لكنه كان من خلاله ومعه بلداً محتلاً لأهم موقع في العالم على الشاشات والمنابر وفي المحافل الدبلوماسية، وهو بلد صغير لكن غسان تويني الكبير عرف كيف يكبّر حضوره ويحيي قضية وطنه ويكبّرها أيضاً.

تلك كانت محطة جديدة لاحقة في انجذابنا إلى هذا الرجل، وكانت قراءاتي لتاريخ البلد قد وضعتني أمامه في تجربة سياسية أخرى إلى جانب القائد السياسي والفكري الكبير الشهيد كمال جنبلاط يوم أسسّا معاً الجبهة الاشتراكية الوطنية لإسقاط نظام فساد وإفساد، ثم التقيا في أكثر من محطة مع شخصيات سياسية وقيادية في البلاد وكان لمواقفهم تأثير كبير في تغيير مجريات أحداث كثيرة وكبيرة في البلاد. لكن الموقع الأهم الثابت الدائم لغسان تويني كان الكلمة. هي البدء معها البداية وهي الاستمرار والبقاء، إنها الصحافة وعمادها الأهم في تاريخ لبنان النهار (التوينية). من مكتبه في النهار صدرت قرارات ومواقف وأطلقت كلمات وركبت عناوين ليوم الغد على صدر الصفحة الأولى من النهار كانت عناوين لغد لبنان الذي كان يتطلع إليه هذا الرجل الكبير.

بعد حرب الجبل التي كانت الجرح الأكبر في الحروب اللبنانية، التقيت به، وكان لفترة مستشاراً لرئيس الجمهورية آنذاك الشيخ أمين الجميل، وكنت دائماً أتساءل ما الذي جمع بين الرجلين؟؟ دخلت إليه وسألته هذا السؤال من موقع المستغرب والراغب بالمعرفة ليس فقط معرفة الجواب على سؤال محدد بل معرفة ما يراه ويستشرفه لمستقبل البلد. ابتسم وشرح باختصار دوره إلى جانب الرئيس الجميل، ولم أقتنع، لكنه لم يعطني شيئاً آخر، بل بادرني بسؤال: ماذا لديك (شيخ) غازي؟؟ كيف ترى الأوضاع؟؟ أدركت حقيقة كامنة في شخصية هذا الرجل. بين كل الصفات المكونة لشخصيته الاستثنائية وتجربته، شخصية الصحافي هي الطاغية... لو كنت من عمر أحفاده أو من تلاميذه أو العاملين معه في صحيفته أو في الحقل الإعلامي أو السياسي أو الدبلوماسي، أو في أي حقل، فهو الباحث الدائم عن الحقيقة والمعلومة والرأي أينما كان، ويشعرك كأنك أنت في موقع المعرفة والاطلاع. هذه هي المهنة وهذا سر أبرز أركانها وتاريخها في العقود الأخيرة من تاريخ لبنان.

غسان تويني غُدر لكنه صمد في وجه الغدر وانتصر عليه. ليس قليلاً أن يخسر زوجة ساحرة أديبة وشاعرة وكاتبة ومثقفة ويفقد ابنة مشرقة وابناً واعداً ثم في قمة التحدي يخسر وعداً بجبرانه الابن والحفيد لشباب واعد ولصحافة حرة ووطن مستقل وكريم. كان استشهاد جبران قاسياً على الحركة الاستقلالية كلها في لبنان لكنه الأقسى على غسان الكبير المتقدم في السن. وقف أمام الجميع، متقدماً بالعقل الراجح، والنفس القوية والإرادة والعزيمة والإيمان والتحدي. تقدم الجميع ليقول: لا بكاء. ولا سكون. ولا خوف. ولا تردد. إلى العمل. إلى النهار. إلى الكلمة. إلى التعلم. إلى العقل. إلى العلم. إلى الحياة. إرادة الحياة هي الأقوى في حياة غسان، أقوى من إرادة الموت دون مبالغة ولو كان الموت حقاً وغسان من المؤمنين ومن هذا الحق استمد في كل حياته حق الحياة وقوة الاستمرار. وإرادة الحياة هذه أساس إيمانه والتعبير عنها الكلمة...

وقتل المجرمون الإرهابيون جبرانه. واستهدفوا بذلك النهار. لكن غسان غالبهم الدائم بالكلمة. كلمته لا تدمّر. لا تقهر. لا تفجّر. لا تموت. هي أقوى من فعلهم وجبروتهم. هذا هو إيمانه ولذلك انتصر في الحياة وللحياة وللحرية وستنتصر قضيته وتستمر (نهاره).

غسان تويني تجربة فريدة. شخصية استثنائية. ثروة من ثروات لبنان. عامود من أعمدته الكبيرة. صُقل من صبر وحكمة وقوة كلمات واجهته رياح عاتية وعواصف كبيرة واستهدافات كثيرة لهزه ولا يزال واقفاً. إن هوى يوماً فعناصر بنائه لا تسقط ونتاجها لا يموت...

* وزير الإعلام اللبناني


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة