Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

كان يمكن أن يعيش..
وكان يمكن للأب أن يفرح به كثيراً
ناصر الظاهري*

 

 

هي تحية موجهة لغسان تويني من خلال ابنه جبران، فمشهد وداع الأب للابن الذاهب نحو حلم لبنان الجميل، نحو التأصيل، ما زال أمام غمامة العين، وما زال عالقاً في الذاكرة التي لا تحب أن تخون، هي تحية إنسانية، خالصة، زاهية بالنبل، وبالنفس الأمّارة بالحب والأشياء الجميلة، حينما يتعالى الإنسان فوق الأشياء، ويكون هو السمو.

اسمح لي.. يا أستاذي الكبير عني عمراً، والكبير مني قدراً، الكبير في الصحافة والسياسة والتاريخ والحياة أن أكون مغايراً، ومختلفاً في الاحتفاء بك، غير أنني صادق، لأحكي لك قصة صغيرة، كانت في يومها ربما لا تعنيك كثيراً، ولا تريد أن تزحم بها ذاكرة شيخوختك، لكنك اليوم، تريد أن تسمعها، وتحب أن تسمعها، وتفرح إن سمعتها، وليتني أكون مثل ابنك.

التقيت بجبران تويني أول مرة عام 1995، كنت يومها أتدرب في مبنى جريدة النهار القديمة، وكان يومها مسؤولاً عن ملحق (نهار الشباب)، وكان فرحاً بذلك الملحق الأسبوعي، لأنه كان مصدراً دقيقاً ومقياساً لصيقاً عن الجيل اللبناني الشاب، وقريباً منه ومن مشاكله وتطلعاته المستقبلية، تحدثنا عن التجربة وحداثتها في الصحافة العربية، وأن شريحة الشباب الجامعي كثيراً ما ظلمته الصحافة، وابتعدت عن سبره من الداخل، والتواصل مع تفكيره الجديد، وتطلعاته وآفاق مستقبله، وعدم الاهتمام بالموهبة لديهم، وتشجيعها ودعمها، مثلما هو حاصل في الغرب، فالشباب العربي نادراً ما ينتبه للمواهب التي يحملها، ونادراً من يجد من يتبناه من مؤسسات مجتمعية، ونادراً ما يكتشفها في نفسه، وبالتالي هذه الموهبة إما تطمس أو تغيّب بعد التخرج الجامعي، ويبدأ مشواره العملي، والاهتمام بالقضايا المعيشية، والفرح بالمنجز الجامعي كشهادة، واعتبار اجتماعي، لذلك يتكدس في المجتمع العربي الموظفون بشهادات جامعية، في حين أن الشباب الغربي يدرس في الجامعة، لكنه يذهب وراء موهبته، وبالتالي ينجح في الحياة، لأنه درس من أجل نفسه والآخرين والحياة.

تحدثنا عن الصحافة في لبنان، وإذا ما حضرت الصحافة في لبنان حضرت السياسة، وحضر لبنان بأكمله، لكنني في تلك الزيارة كنت أريد منه أمراً واحداً، وهو تلخيص ما استفاد من والده، ومن مشواره الصحفي والسياسي والثقافي، كنت أريده أن يضع كل تلك التجربة في جملة واحدة مفيدة، كنت وقتها عجلاً، أريد أن أختزل تجربة جريدة النهار- التي قاربت السبعين - وأن أستوعبها خلال شهر واحد، وأستفيد من تجربة تويني الأب المؤسس والابن الطموح في متابعة المسيرة ذاتها، وفريق النهار المتمرس، وعلى رأسهم الصحفي القدير أدمون صعب.. فأدركت كم هي صعبة مسألة حرق المراحل.

خرجت من مكتب جبران يومها، وإحساسي يقول: إن جبران طاقة كبيرة، وشابة، وصحية، ويريد أن يختزل الأمور مثلي، ويحرق المراحل قبلي، وأن إيقاع ساعات (النهار) لابد وأن يتغير، و(الديك) الذي يؤذن شعاراً ونهاراً لجريدة (النهار) الطالعة صبيحة كل يوم.

ويوم بيروت كان لابد وأن يتغير، والسياسة القديمة في لبنان لابد وأن تتغير، وأن زمن العائلات السياسية، والاستحقاقات العثمانية، والزعامات الوطنية لابد من أن تتغير لصالح المدنية والعصرنة والحداثة في الأشياء وفي القيم الحضارية، ومن أجل الإنسان الجديد في لبنان بهذه الفسيفساء الثقافية المتنوعة والمتفردة، وبالتالي لعموم الإنسان في الوطن العربي، ومحاولة صنع هذا التقارب الحضاري ليصبح إنسانناً كونياً، بعيداً عن خلافات واختلافات عرقية ومذهبية ودينية وقومية وغيرها من مخلفات السياسة العقيمة.

اتفقنا لأننا كنا قريبين في العمر، وفي التخصص، والتوجه وربما.. وأن هناك أشياء كثيرة يمكن صنعها لخير الإنسان العربي، بعدها تلاقينا في مدن مختلفة، وإن كانت بيروت هي البداية وهي ستكون الختام. وفي يوم ربما كان بين الشتاء والربيع كنت مدعواً لزيارة بيروت في عرسها الثقافي، معرض كتابها السنوي وكنت فرحاً بإصدار روايتي وحكايتي .. ك(طائر وحيد.. بجناح بعيد نحو فضاءات الحياة الجميلة الملونة)، كان فرحاً أردت أن تشاركني بيروت التي أحب جزءاً من الغواية لأنها كانت أصل الغواية، ومغامرة الكتابة، حكايتي ك(طائر بجناح أبعد منه) كان مقدراً لها أن توقع في معرض كتاب بيروت، وقبل يوم وليلة من ذلك الفرح العربي لقراء الضاد وأفق حضارتها، تناقلت المحطات الأخبار السيئة من بيروت، تفجيرات، ركام، حشود، وحوادث تشبه اغتيال الحريري و(مستقبل لبنان).

كان الخبر محزناً ومؤلماً وموجعاً وصادماً، ولو كان المتلقي راعي كنيسة لم يعرف الدنس بعد، ويمكن أن يعطي خده الأيسر للاطم خده الأيمن، ولا يبالي، لكن البدوي الساكن فيّ والذي لا يحب أن يصعّر خده، ويمكن أن يقول كلمته، ولو على قص رقبته، ولا يرضى أن تمر الأمور هكذا دون أن يعلن موقفه، فكان قراري بالغياب وفرح مشاركة محمود درويش في توقيع كتابه في مقر دار الريس في معرض كتاب بيروت، كانت هناك فقط برقية صغيرة وموجعة إلى رياض الريس، وإلى بيروت التي أحب، وإلى لبنان الذاهب نحو جروح أعمق، وعذابات لا تنتهي.

* أديب وصحافي من الإمارات العربية المتحدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة