Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

الصابر البصير
د.عبدالله محمد الغذامي*

 

 

لا يمكنني أن أنسى ذلك الموقف والأستاذ الجليل غسان تويني يظهر على شاشات التلفزيونات وهو ينظر إلى ابنه جبران وقد ابتلعته يد غادرة أهدرت كرامة الوطن والإنسانية والكلمة الحرة والتاريخ الثري في الأب والابن وما وراءهما من معانٍ تعمر خواطر كل من يسمع باسم تويني وتاريخ هذا الاسم ومعناه العربي والثقافي.

وقف الرجل الجليل وكنت مثل كل البشر في تلك اللحظة ننظر في الوجه والصورة وأحاسيسنا مع رجل مكلوم جاء طائراً من باريس في طريق من الآلام بعد ان استدعته الأحداث ليقف على جثمان فلذة كبده ويقف على وطنه مقتولاً يسيل الدم من جنباته.

هي لحظة للاستماع والتبصر والتماهي مع الحدث، ولذا مهما قال الرجل فإن قوله هو سيد اللحظة. ولقد قال وكتب اللحظة فعلا، وهو الذي رفع رأسه المحمل بكل المعاني بعيدها وقريبها، وأسمع الملأ، كل الملأ، صوته وهو يقول: إنها لحظة الوطن ولحظة الارتفاع عن الثأر إنها لحظة النظر إلى الأمام، ولنجعل الدماء تمسح الخطايا وتفتح طريقا للأمل والمستقبل.

تلك هي السيادة العليا، سيادة على النفس وعلى الموت وانتصار على الغدر، وها هو يرفع فلذة كبده ليكون سيداً من فوق كل السيادات وليعلن أن الطريق الكبير هو طريق الكاظمين للغيظ والمنتصرين للمعاني الكبرى.

كنت أنظر في صورته وأستمع إلى كلماته لأرى فيه الرجل الحكيم والرجل الصابر والرجل البصير، ذاك الذي خبر الحياة وتعلم منها، وها هو يعلم البشر، كل البشر كيف يقف الإنسان أمام الرزايا وكيف ينتصر على نفسه وعلى ألمه وعلى خصمه وعدوه بأن لا يكون مثلهم ويكون معنى أعلى منهم وأكبر.

غسان تويني تاريخ عميق ومديد في الكتابة والصحافة والسياسة والوطنية والخبرة، رأى من الحياة كل وجوهها وكل تقلباتها، وقرر أن يعطي الحياة وجهاً واحداً ثابتاً ومتواتراً، هو وجه العمل والصبر وجه الرجل الذي يفتح أبواب المستقبل مهما تسددت الآفاق واكفهرت المنافذ.

وعلى مدى عقود كنت أقرأه وأستمع إليه مختلفا معه في مواقف ومتفهماً له في مواقف، وفي الحالتين كنت أرى رجلاً يمشي بالحكمة ويستنطق في الكلمات أبعد ما فيها وأقوى ما فيها حتى لصارت حربه الأهم هي الحرب ضد بشاعة اللغة مع السعي الدائم لتحرير الكلمات من عارها ومن جفوتها، ولذا صار نموذجاً في العمل وفي الكتابة وفي المواقف.

وتلك هي السيادة العليا وسيرة الانتصار للأجمل والأكمل.

*مفكر وأكاديمي سعودي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة