Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

مؤسس صحافة مقاومة الأحزان!
سليم نصار*

 

 

قبل أن يبدأ غسان تويني محاضرته في (مركز الدراسات اللبنانية) - أوكسفورد- قدمه للجمهور السفير البريطاني السابق بول رايت، بكلمات معبرة اختصرت سيرة المحاضر، فقال: أنا محتار في اختيار الصورة الحقيقية التي تنطبق على مقاييس التعريف بغسان تويني، هل هي صورة الصحافي... أم صورة السياسي... أم صورة الدبلوماسي أم صورة الأديب؟ إن غسان في نظري، هو كل هذه الصور وأكثر!

ومثل هذه الصور الجامعة لعدد من الصفات والمواصفات غير قابلة للدحض إلا في حال واحدة: أي عندما يحاول غسان السياسي أو الدبلوماسي منع غسان الصحافي من ممارسة التفكير والتعبير. عندئذ تتقدم (السلطة الرابعة) لتقوض السلطات الأخرى وتطردها من (دار النهار).

والمعروف تاريخياً أن مفهوم الصحافة كسلطة رابعة، طرح للمرة الأولى على لسان المفكر ادمون بيرك الذي قال: (إذا كان الفيلسوف مونتسكيو قد عرّف الدولة بتمثيل ثلاث سلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، فإن قاعة المراسلين تحت سقف البرلمان تضم السلطة الرابعة وهي أهم من الثلاث).

ولكن (السلطة الرابعة) في لبنان لم تعد تملك ذلك النفوذ القاطع الذي مارسه غسان تويني عقب وفاة والده جبران سنة 1947. يومها اضطر للرجوع إلى لبنان من الولايات المتحدة كي يتولى مهمة رئاسة تحرير (النهار).

ومن فوق منبر الصحافة قفز غسان بسرعة إلى منبر السياسة عندما اشترك في جبهة المعارضة التي أسقطت الرئيس بشارة الخوري صيف 1952. ومع أن تلك القفزة أعانته على فتح أبواب الوزارات، إلا أن نجله جبران وظف ذلك الماضي للاقتداء بوالده وتبرير جموحه الإعلامي. وكثيراً ما كان غسان ينصحه بضرورة استخدام كوابح الحذر، لأن السجن لم يعد وحده سلاح القصاص في لبنان، ولأن درع (النهار) لا يستطيع حمايته من عقاب أفقده أقرب صديقين إلى قلبه هما كامل مروة وسليم اللوزي.

عندما اغتيل جبران تويني (كانون الأول - ديسمبر 2005 ميلادي) توقع الناس من والده إصدار صيحة انتقامية تغذي الحقد لدى آلاف المشيعين الذين اعتبروا أن لبنان لن يخرج بسهولة من عصر الظلمات. ولكن الولد المفجوع تعالى على الكارثة، وكتب افتتاحية قصيرة جداً عبر فيها عن روح الاستسلام إلى مشيئة الله وقدره، جاء فيها: (أنا أدعو اليوم في هذه المناسبة لا إلى الانتقام ولا إلى الحقد ولا إلى دم. أدعو إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها والكلام الخلافي كله، وأن ننادي بصوت واحد ذلك القسم الذي أطلقه في ساحة الشهداء، يوم انتفاضة 2005 التي ذهب ضحيتها: أدعو اللبنانيين - مسيحيين ومسلمين- إلى أن يكونوا واحداً في خدمة لبنان والوطن العظيم وفي خدمة قضيته العربية. وشكراً).

كانت تلك الكلمة بمثابة نقطة انطلاق جديدة لحادث مأساوي ساعد على انتشار صحيفة (النهار) لا على وأدها، كما توقع القتلة. وللمرة الرابعة يخرج غسان تويني وهو أكثر عناداً وتصميماً على مواصلة مسيرته الصحافية. في المرة الأولى فقد ابنته نايلة وهي في السابعة من عمرها. وفي المرة الثانية فقد زوجته ناديا، شقيقة الوزير مروان حمادة، التي توفيت بعد صراع مع المرض استمر ثماني سنوات. وفي المرة الثالثة توفي نجله مكرم في باريس، إثر حادث سير مروع.

وقد ترك ذلك الحادث المفجع في صدر غسان جرحاً لا يندمل، على اعتبار أن (مكرم) كان يمثل له صورة مطابقة لشخصية زوجته (ناديا) بوداعتها وحضورها الآسر وثقافتها الغزيرة. كما يمثل له أيضاً الأمل الملتصق بماضيه الأكاديمي في جامعة (هارفرد) قبل أن تخطفه الصحافة ليحل في موقع والده في (النهار). وعندما اغتيل ابنه الأكبر (جبران)، شعر غسان بأن تفريغ أحزانه بواسطة الكلمة، كان الدواء الأخير لمكافحة النسيان. لذلك وصفت كتاباته بعد تلك الفواجع المتلاحقة، باللآلئ التي تتكون داخل المحارات بسبب جروح يحدثها تسلل الرمال. ولكنها لآلئ سوداء لكثرة ما لونها الموت بالضربات والأوجاع.

إضافة إلى الكتابة، اكتشف غسان تويني أن عادة النوم أثناء النهار يمكن أن تعوض له عن سهره الدائم خلال الليل. وكثيراً ما تساعده على ممارسة هذه العادة الطارئة زوجته (شادية) التي اكتشفت أن قاعات المسارح وصالت السينما في بيروت وباريس، هي أفضل غرف نوم لعيونه الأرقة. ذلك أن الليل بالنسبة إليه، ليس أكثر من فرصة لإيقاظ الموتى وبعث الذكريات ومراجعة شريط الآلام.

وقد يصدم الزائر لبيته في (بيت مري) عندما يرى سريره الصغير في حجم سرير الجندي أو الكشاف. والسبب أنه لا يستمتع بدفء الأسرة قدر استمتاعه بصخب الأصوات التي تنسيه أشباح موتاه. وحدث أثناء زيارته الأخيرة للرياض أن استقبله العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز، مع شلة من أصدقائه الصحافيين في مكتبه بالقصر. وراح الملك يشيد بكتابات غسان ويثني على مواقفه الوطنية ويمدح جرأته.

من بين وسائل الهروب من جحيم الذكريات المنفرة، اكتشف غسان تويني أن السيكارة تعينه على نفث دخان أحزانه. لذلك رفض نصح الأطباء بحجة أنه لا يخاف من الموت، وأنه لن يتخلى عن السيكارة من أجل كسب عافية مصطنعة. وحدث مرة أن صادف جلوسه في مقصورة طائرة يحظر التدخين فيها. وطلب من المضيفة أن تسمح له بدخول غرفة القيادة. ولما فعلت، وضع الطيار أمام خيارين: إما أن تقوم بهبوط اضطراري لأن قلبي الخافق لن تهدأ سرعته إلا إذا عالجته بالنيكوتين... وإما أن تسمح لي بالتدخين. وانتقى قائد الطائرة الحل الثاني.

كان الرئيس إلياس سركيس يردد أمام النواب قوله بأن في لبنان شخصيتين تشعران دائماً بأنهما أكبر من النظام، أو أن النظام لم ينصفهما، هما: كمال جنبلاط وغسان تويني. والاثنان ينتميان إلى الأقليات (درزي وأرثوذكسي)، الأمر الذي كان يزيد من حدة معارضتهما لنظام لا يؤمن لهما مبدأ المساواة في المواطنة وشروط تحقيق الطموحات السياسية.

ومن أجل ردم هوة الفوارق، ظل غسان تويني ينتقد النظام دفاعاً عن الحرية والمساواة، وإنقاذاً للمواطن من حال الإجحاف والانزواء. وقد كرس وقته منذ اغتيال نجله جبران، للمساهمة في إنتاج أكبر كمية من كتب التراث. ويعود له الفضل في إبقاء دور (السلطة الرابعة) قائماً في وقت زال دور السلطات الثلاث.

يقول غسان تويني إن الموت -موت نجله جبران- منعه من التقاعد والانصراف إلى تأليف الكتب. وكان قد قرر اعتزال (مهنة البحث عن المتاعب) عقب انتهاء مهمته كسفير في الأمم المتحدة. ولكن انشغاله لمدة سنتين في رئاسة جامعة البلمند، عرقل برنامجه الخاص ووضعه مرة ثانية في لجة المتاعب.

ولكن اغتيال نجله الأكبر والأخير جبران، أعاده إلى دار (النهار) ليؤسس صحافة مقاومة الأحزان، ويندفع للكتابة بالقلم الغاضب الذي استخدمه جبران في نضاله ضد مكسري أقلام الحرية!

* كاتب وصحافي لبناني يقيم في لندن


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة