Culture Magazine Monday  07/01/2008 G Issue 228
فضاءات
الأثنين 29 ,ذو الحجة 1428   العدد  228
 

مساقات
سالفة الإعلام العربيّ!
د. عبدالله بن أحمد الفيفي*

 

 

تطرقنا في المساق السابق إلى أهميّة مسابقة (أمير الشعراء)، التي نظمتها هيئة أبي ظبي للثقافة والتراث، الصيف الماضي. ونضيف اليوم في هذا السياق: أنْ لعلّ صفة (التقليدي) في نعت الشعر المخصص له مهرجان (أمير الشعراء) ليست إلا إشارة غير دقيقة إلى الأصالة اللغوية والفنية، لا إلى فصل الشعر عن حركة التجديد التي لا حياة للشعر بدونها أصلاً. ويؤكّد هذا المفهوم الإعلانُ اللاحق عن تلك المسابقة، حيث جاء في شروط الاشتراك في المسابقة: (يتمّ قبول قصيدة الفصحى العموديّة التقليديّة، والشعر الحرّ أو التفعيلة، ولا تُقبل قصيدة النثر). والواقع أن ليست كل قصيدة بيتية - (ولا أقول عمودية، كما يطلق تجوزا على القصيدة ذات الشطرين؛ لأن لعموديّة الشِّعر مفهوماً خاصا في النقد العربيّ القديم، حدده (أبو علي المرزوقي، - 421هـ =1030م) في كتابه (شرح ديوان الحماسة لأبي تمام))- تقليدية ضربة لازب! فالشكل القالبيّ ليس ما يحدد الحكم بقيمة التقليدية أو التجديدية في النصّ؛ إذ كم من قصيدة بيتية تجديدية، بل حداثية، وكم من قصيدة تفعيلية أشد تقليدية من شعر البحتري!

أما عزل (قصيدة النثر) عن مسابقة (أمير الشعراء)، فمحل نظر، ولا أراه مقبولاً بإطلاق. ذلك أن عزل نوع أدبي ليس إجراءً عادلاً، ولا حضاريا، ولا ثقافيا، ولا نقديا. فإنْ كانت قصيدة النثر تُعدّ شعراً، فمن حقها المشاركة في مسابقة الشعر - والميدان كفيل بوضعها في مكانها الذي تستحق - إنْ حكمت الأمر معاييرُ نقدية حقيقية، لا توجهها المذاهب والإيديولوجيات والعلاقات، كحال بعض المسابقات المطبوخة نتائجها سلفاً قبل البدء - وإنْ لم تكن قصيدة النثر شعراً أصلاً، فلا حاجة لاستثنائها؛ من حيث هي خارج موضوع المسابقة! أما أنْ تستثنى بذلك الشكل المعلن، فذلك يعني أن المستثني يعدها شعراً، بيد أنه - لأمر ما - سيستبعدها.

كما أن لقب (أمير الشعراء) يمكن تقبّله في سياق مسابقة كتلك؛ إذ لم يعد سوى مجازٍ تكريمي، على غرار الألقاب الممنوحة في المسابقات الجمالية، لمزايين النساء، أو حتى مزايين الإبل، على سبيل المثل.

وكذا جاءت مبادرات أخرى في مجال فتح التنافس باباً للإبداع الشعري الفصيح - على الرغم من التفاوت الملحوظ في المستويات الفنية للشعراء، أو في كفاءات لجان التحكيم - وذلك كمسابقة (شاعر العرب)، التي يقدمها الإعلامي العربي محمد الهاشمي، صاحب قناة (المستقلة) الفضائية، عبر قناته. ويعدّ هذا - في رأيي - من واجب الإعلام الباني، الذي ينشده قحطنا الثقافي المعاصر.

وسالفة الإعلام العربي سالفة تُروى للاعتبار! فهو لم يُفد من انفتاح الفضاء لنشر العلمِ والوعي والمعرفة إلا في أضيق الحدود، في حين يعجّ الفضاء العربيّ الآن بالشعبيّات، والدّجل والترّهات. إذ بعد أن كان المأمول أن تمحَى الأميّة في أوطاننا - وإن حدّها الأدنى (الأميّة الكتابيّة) - عُدنا إلى عصر سماعيّ شفاهيّ، قَبَليّ (إبليّ) جديد، بفضل الثقافة الشعبويّة، مسموعة ومرئيّة ومكتوبة، بكل ما يعنيه ذلك جميعه، من تراجع اجتماعيّ ومعرفيّ وقيميّ وثقافيّ، وكلّ ما يضخّه من عصبيّات وعنصريّات، تفتّت البنية الاجتماعية والثقافيّة إلى عشائر وفئات وطوائف.

لقد كان من أهمّ المشاريع الحديثة، إنْ لم يكن أهمّها، توحيد الملك عبدالعزيز لمعظم أجزاء الجزيرة العربيّة، في هذا الكيان: المملكة العربيّة السعودية. ذلك التوحيد الذي لم يكن مركباً سهلاً، ولا كان مشروع توحيدٍ سياسيّ، بل كان مشروع توحيدٍ لغويّ وثقافيّ واجتماعيّ، وإستراتيجية نهضويّة اندماجيّة مدنيّة كاملة، في سبيل وطنٍ واحد، يلمّ شتاتاً لم يلتمّ من قبل، أفقيّاً وعموديّاً:

مَنْ وَحَّدَ الأَرْضَ أَرْضَ اللهِ في جَسَدٍ

المَسْجِدانِ بِهِ العَيْنَانَ والحَوَرُ؟

ومَنْ أَحاطَ رِقَابَ الجِيْلِ مَأْثُرَةً

مِنْ بَعْدِهِ الجِيْلُ يَتْلُوْها ويَأْتَثِرُ؟

مَنْ قَبْلهُ لَمَّ هذا الشَّعثَ في رِئةٍ

أَنفْاسُها الشِّيْحُ والكَاذِيُّ والمَطَرُ؟

ومَنْ تُرَاهُ ابْتَنَى للعُرْبِ مَمْلَكَةً

في شَكْلِ قَلْبٍ بِنَبضِ القَلْبِ يَعْتَمِرُ؟

كما صورتُ خارطة المملكة وتاريخها في (قصيدة المئويّة). إلاّ أن ذلك المشروع الكبير يبدو مهدّداً اليوم، كأنما يُراد له أن يعود القهقرَى - بعد مرور مئة سنة على التأسيس - باسم التراث الشعبي، وبفضل نبش ماضينا البئيس من خلال الشِّعريات العاميّة، والمهرجانات الشعبيّة، سواء حول مزايين (الأدب) أو مزايين (الإبل)! وفي سبيل هذا تتبدى سلبيات أخرى، ليس أقلها تبذير مئات الملايين من الأموال في غير طائل، مما لو أنفق بعض بعضه في أحد المشاريع الخيرية الوطنية لكان خيراً وأبقى في الدنيا والآخرة، بل لكان صيته أجدى حتى لمن هو قانع بصيت العاجلة عن الآجلة.

وتأتي المسابقات الشعبية، ويأتي بذخ الإنفاق عليها، والتظاهر في سبيلها، بديلاً ثقافياً مناسباً لمسابقات جمالية في عالم الفن والمرأة في بيئات أخرى، المرأة فيها بدورها محض زينة! على الرغم من أن العصر لم يعد عصر إبل ولا عصر مثل تلك المسابقات، وإن ظل عصر امرأة/سلعة! ويُسمّى ذلك تراثاً، هناك وهنا.

لقد أصبحتْ تلك الفعاليات مسرحاً مفتوحاً للتنافس والمزايدة، تغذي ذلك القنوات الفضائية المخصصة في هذا المجال. وفي ذلك ما فيه من إثارة نعرات، تطلع علينا بمثابة ردة عن الوحدة الوطنية. بما يعيد بعض التقاليد العربية الثقافية البالية، منذ ناقة البسوس، وما أدراك ما ناقة البسوس، إلى الجمل الأسود، عبر الرصيد العربي العريق الذي كان يثير الانقسام بين أحياء العرب: سباقاً، أو توظيفاً رمزياً، أو تمظهراً سيمويّاً لدواع ثقافية، أو حتى أسطورية. إضافة إلى الجوانب الاقتصادية المترتبة على ذلك كله.

وكل هذا يسهم بشكل أو بآخر في تفتيت اللحمة الوطنية، والوئام الاجتماعي، وإهدار المال العام والخاص. أو ننسى هنا أن العرب مزقوا كل ممزق في سالف أيامهم لأتفه الأسباب، ومن وراء مثل تلك الأنشطة والمسابقات، وما نراهن على أن عرب اليوم هم أكثر حكمة وحلماً وعقلانية - إن لم يُؤْطَروا على الحق والنظام أطراً - من أجدادهم عرب الأمس، بحكمائهم وعقلائهم وحُلمائهم، الذين يُضرب بهم المثل. وفي كل الأحوال فإن كلّ نشاطٍ لا يحكمه العقل، ويضبطه التنظيم، يصير إلى انحرافٍ وإضرار، برغم ما قد تكمن وراءه من مقاصد نبيلة. وهذا ما يحدث في أنشطة الساحات الشعبية على اختلافها، التي يجب ترشيدها، وتنظيمها، لا تركها هملاً. كما يجب الترقي بها، لا الانحدار بها، ومعها، بحجة المحافظة على الأصالة.

إن الإبل - على سبيل المثال - ثروة وطنية مهمة جداً، هيّأ الله في خلقها ما ناسب الحياة العربية قديماً، فكانت رفيقة العربي، وملهمته، لا ينافسها لدى الشاعر إلا الخيل، والنساء، كما يتجلى ذلك في الشعر العربي عبر العصور. ومن الممكن أن تنمَّى اليوم تلك الثروة، وأن تستثمر إنتاجياً، إنْ في مجال الأغذية أو في أشكال الصناعات المختلفة، عوض أن تهمل أو أن تصبح في بعض حالاتها عبئاً، وهدراً، وفخراً! كما أن مسابقاتها يمكن أن تجيء مثلاً على سبيل مسابقات أقيمت مؤخراً في محافظة أسيوط في مصر، (لملكات جمال البقر!)، بهدف التشجيع على تربية السلالات الممتازة منها. وأن تأتي فعالياتها بتكاليف معقولة، يستهدف بها مردودها البناء، في إطار العمل الوطني، والمصلحة العامة، منصبة غايتها على تنمية الثروة الحيوانية، دون إغفال للجوانب الثقافية والترويحية المقبولة، وذلك في مواسم خاصة.

وهذا لن يكون إلا محل ترحيب من الجميع، من بدوٍ وحضر، أهل وبَرَ ومَدَر! بل لو جاء ذلك كذلك، لأضحى من الواجبات الطبيعية والوطنية التي لا يختلف فيها اثنان.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* (عضو مجلس الشورى) aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة